الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن السمة البارزة في أسواق النفط العالمية المرتبطة بعدم استقرار الأسعار تفضي دائماً إلى ظروف تتسم بحالة عدم اليقين في إعداد الموازنات العامة للدول النفطية. وبإعتبار أن الميزانية العامة هي خطة عمل متفق عليها تتضمن تقدير الإنفاق العام للدولة ولمواردها لفترة لاحقة تلتزم الدولة على تنفيذها، فإن كثير من الدول ولاسيما النفطية أمام تحدي إتجاه النفقات العامة نحو الإرتفاع، والتي تكون إيراداتها عرضة لتقلبات الأسعار. وفي أوقات تحسن الأسعار وإرتفاع الإيرادات النفطية يتم توجيه هذه الزيادة نحو مشروعات البنية التحتية الأساسية والإجتماعية الداعمة للنمو، إلا أنه غالباً ما يتم ذلك من غير إعطاء أهمية كبيرة إلى جودة الإنفاق وانعكاساته المستقبلية على الأداء الاقتصادي في ظل عدم وجود أولويات واضحة حول كيفية إنفاق الإيرادات الإضافية. ولذا فإن غالبية الدول النفطية لم تتمكن من تحقيق الاستدامة الاقتصادية مع بقاء نمو اقتصاداتها عرضة لتقلبات أسعار النفط.
وفي حالة انخفاض الأسعار وتناقص الإيرادات تتسع العجوزات المالية نظراً لضرورة تغطية الإنفاق الجاري والذي غالبه يشتمل على تعويضات العاملين حيث يصعب التراجع عنه، مما يستدعي قيام هذه الدول بخفض الإنفاق الرأسمالي على مشروعات البنية التحتية والإجتماعية. وهذا التوجه يؤدي إلى انعكاسا سلبياً على الأداء الاقتصادي، ليس فقط على قطاع التشييد والبناء من مرافق عامة ومستشفيات وجامعات ومدارس في المدى القصير، وإنما أيضاً على رأس المال البشري في المدى المتوسط والبعيد. وقد شهدت المملكة العربية السعودية مثل هذه الدورات في الإيرادات والنفقات خلال العقود الماضية. وإن أقرب مثال لهذه الدورات من التراجع الحاد في الإيرادات النفطية تلك التي جاءت على إثر أزمة كورونا والتي شكّلت صعوبات تمويلية ساهمت في تراجع الإنفاق على المشاريع الرأسمالية خلال عام 2020، ثم سجل مستويات منخفضة خلال عام 2021 ليبلغ 15 مليار ريال في الربع الأول و22 مليار ريال في الربع الثاني، (الرسم البياني 1).
في هذا السياق جاءت مؤشرات أداء الميزانية العامة للدولة للربع الثاني في جانب الإيرادات لتعكس التحسن الذي شهدته أسعار النفط على خلفية القرارات التي اتخذتها مجموعة أوبك وحلفائها بقيادة المملكة في خفض الإنتاج إبتداءً من مايو 2020، حيث ارتفع متوسط الأسعار بنسبة 149.5% من 27.5 دولار للبرميل في الربع الثاني 2020 إلى 68.6 دولار للبرميل في الربع الثاني 2021، في حين سجل إنتاج المملكة من النفط إنخفاضاً بنسبة 8.6%، ليبلغ 8.5 مليون برميل يومياً. وقد بلغت الإيرادات النفطية خلال نفس الفترة 132.2 مليار ريال، حيث سجلت إرتفاعاً بنسبة 38.1% عن مستواها في الربع الثاني 2020، بعد أن زادت بنسبة 13.4% مقارنة بالربع الأول 2021. وإنه على الرغم من إنخفاض مستويات الإنتاج في المملكة، إلا أن إرتفاع الأسعار بنسبة 149.5% عن مستواها لنفس الفترة من العام الماضي كان أكثر من كافي ليعوض هذا الانخفاض، والذي اشتمل على الإنخفاض الإختياري إلى جانب الإنخفاض المتفق عليه ضمن مجموعة أوبك والشركاء الآخرين، (الرسم البياني 2).
وإنعكاساً للإجراءات الضريبية الإستثنائية التي أدخلتها الحكومة إبتداءً من يوليو 2020 وزيادة الرسوم الإدارية وغيرها من الإجراءات المالية التي جاءت ضمن برنامج التوازن المالي بهدف تنويع مصادر الإيرادات وتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية سجلت ميزانية الربع الثاني 2021 تحسناً كبيراً في الإيرادات غير النفطية إذ بلغت 115.9 مليار ريال، لترتفع بنسبة 203.3% على أساس سنوي وشكّلت حصتها 46.7% من إجمالي الإيرادات. وقد جاءت هذه الزيادة الكبيرة بشكل أساسي من الضرائب على السلع والخدمات (ضريبة القيمة المضافة التي تم رفعها من 5% إلى 15% في يوليو 2020 وكذلك الضريبة الانتقائية) لتبلغ 67.9 مليار ريال، حيث سجّلت زيادة كبيرة بنسبة 543.9% في الربع الثاني 2021 مقارنة بالربع الثاني من عام 2020. كما شكّلت حصتها الأكبر بنسبة 58.6% من إجمالي الإيرادات غير النفطية وبلغت أيضاً نحو 27.4% من إجمالي الإيرادات. كذلك ارتفعت الضرائب الأخرى والتي منها الزكاة بنسبة 483.1% على أساس سنوي لتبلغ 19.6 مليار ريال، كما ارتفعت الضرائب على التجارة والرسوم الجمركية بنسبة 13.8% لتبلغ 4.3 مليار ريال. (الرسم البياني 3).
إن هذه الترتيبات مجتمعة ساهمت في زيادة الإيرادات الحكومية التي هي مكون أساسي في برنامج التوازن المالي ولا شك أنه من الأهمية بمكان من وضع سياسة مالية مستدامة والحد من تقلباتها المرتبطة بأسعار النفط. بيد أنه أيضاً من الأهمية بمكان أن يكون هناك توازناً بين أهمية تنويع إيرادات الدولة من ناحية وأهمية تحقيق النمو الاقتصادي من ناحية أخرى وألا يكون هدف تنويع الإيرادات للدولة يطغى على حساب النمو الاقتصادي. لقد ساهمت الإجراءات الاحترازية وتقييد حركة النشاط الاقتصادي إلى جانب الإجراءات الضريبية في انكماش الناتج المحلي للقطاع غير النفطي بالأسعار الثابتة على أساس سنوي في الربع الثالث والرابع من العام الماضي بنسبة 3.1 % و0.9% على التوالي. إلا أن تسارع وتيرة اللقاح وفرض الإجراءات الاحترازية في دخول مؤسسات القطاع العام والخاص والمجمّعات أدّى إلى انخفاض ملحوظ في عدد الإصابات، مما مكّن الحكومة بالبدء في رفع القيود، الذي بدأ ينعكس إيجاباً على النشاط الاقتصادي، حيث سجّلت الصادرات غير النفطية تحسناً كبيراً بنسبة 52.1% على أساس سنوي في الربع الثاني 2021 لتبلغ 65.7 مليار ريال (الرسم البياني 4). وقد ارتفع نمو الناتج المحلي للقطاع غير النفطي بنسبة 3.7% في الربع الأول ومن ثم بنسبة 10.1% على أساس سنوي في الربع الثاني 2021. غير أن هذا التحسن يعزى بشكل كبير إلى الطلب المكبوت المتراكم أثناء فترات تقييد حركة النشاط خلال العام الماضي والذي انطلق له العنان بعد ما ظهرت علامات الانتعاش محلياً وعالمياً، (الرسم البياني 5).
وأيضاً خلال الربع الثاني 2021 ارتفعت حصيلة الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية على أساس سنوي بنسبة 337% لتبلغ 7.2 مليار ريال. أما الإيرادات الأخرى والتي تشتمل على العوائد المتحققة من استثمارات البنك المركزي وصندوق الإستثمارات العامة والتي شهدت تحسناً في أدائها خلال الفترة الماضية إلى جانب رسوم الخدمات والرسوم الإدارية فقد تراجعت بنسبة 10.6% على أساس سنوي من 18.8 مليار ريال في الربع الثاني 2020 إلى 16.8 مليار ريال في الربع الثاني 2021. وعلى أساس إجمالي فئات الإيرادات النفطية وغير النفطية للربع الثاني 2021، فقد ارتفعت بنسبة 85.2% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي. وتعزى بشكل أساسي هذه النسبة العالية إلى الإيرادات غير النفطية، وبالخصوص إيرادات الضرائب، ومن ثم الإيرادات النفطية في ظل التحسن الملحوظ الذي شهدته أسعار النفط.
أما في جانب المصروفات، فقد جاءت نسبة الزيادة الأعلى في بند المنافع الإجتماعية بنحو 101.2% إذ ارتفعت من 14.6 مليار ريال في الربع الثاني 2020 إلى 29.5 مليار ريال للربع الثاني 2021. ويعود ذلك إلى إرتفاع أعداد المستفيدين الذين لازالت تشملهم رعاية الدولة بسبب جائحة كورونا وكذلك استمرار الدعم السكني ضمن برامج وزارة الإسكان، وذلك على الرغم من انخفاض مخصص حساب المواطن بنسبة 5% ليبلغ 5.7 مليار ريال خلال الربع الثاني من هذا العام على خلفية استبعاد بعض الفئات غير المستحقة. ويليه من حيث الزيادة بند السلع والخدمات، والذي غالبه يمثل المصاريف التشغيلية في القطاع الحكومي، حيث ارتفع بنسبة 30.1% خلال نفس الفترة ليبلغ 45.5 مليار ريال في الربع الثاني 2021.
كما أنه في ظل تنامي حجم الدين العام، فقد ارتفع بند مصاريف خدمة الدين بنسبة 9.7% ليبلغ 7.4 مليار ريال خلال الربع الثاني 2021، إذ من المتوقع استمراره في الزيادة خلال النصف الثاني من هذا العام والسنوات القادمة، خصوصاَ مع اقتراب وصول بعض أدوات الدين إلى نهاية آجالها والذي يعني الإلتزام بسداد أصول هذه الديون أو إعادة تمويلها، وبطبيعة الحال سوف يشكل ذلك عبءً مالياً متزايداً على الميزانية العامة للدولة في السنوات القادمة. أما من حيث الانخفاض فقد جاءت النسبة الأعلى تراجعاً في الربع الثاني 2021 على أساس سنوي في بند المنح بنسبة 79.2% ويليه بند الإعانات بنسبة 57.1%. إلاّ أن هذا الإنخفاض أتى بعد أن قدمت المملكة منحاً سخيةً للمنظمات الدولية المعنية بمكافحة كورونا ومنها منظمة الصحة العالمية خلال الربع الأول 2021 إذ بلغت 2.7 مليار ريال. وبخصوص الإعانات فقد جاء هذا الانخفاض فيها بعد إنتهاء تطبيق الإجراءات المالية بدعم شركات ومؤسسات القطاع الخاص بنهاية الربع الأول.
لقد شكّلت تعويضات العاملين الحصة الأعلى من المصروفات بنحو 48.6% لتبلغ 122.8 مليار ريال، والتي انخفضت بنسبة بسيطة بنحو 1.6% على أساس سنوي في الربع الثاني، غير أنه لا يزال حجم هذا الإنفاق يمثل تحديا للحكومة في ظل تضخم الجهاز الحكومي الذي يصل إلى ما يقارب من 3.2 مليون موظف. كما أن تأثير إلغاء بدل الغلاء عن موظفي القطاع العام والذي تم تنفيذه في يوليو 2020 جاء محدوداً في مقابل زيادة العاملين في القطاع الحكومي المدني المسجلين على الخدمة المدنية والتأمينات الإجتماعية بنحو 27 ألف موظف خلال النصف الثاني من العام الماضي. وفيما يخص بند الأصول غير المالية والذي يمثل الإنفاق على المشاريع الرأسمالية كان الأكثر انخفاضا من حيث الحجم إذ تراجع بنسبة 25.1% من 29.2 مليار ريال في الربع الثاني 2020 إلى 21.9 مليار ريال لنفس الفترة من 2021، حيث شكّل هذا التراجع أحد العوامل التي ساهمت في تباطؤ معدل النمو في أنشطة الخدمات الحكومية والذي بلغ 0.7% فقط خلال نفس الفترة على أساس سنوي، في حين سجل نمواً بالسالب بنحو 2.6% بالمقارنة للربع الأول 2021، (الرسم البياني 6).
وعلى أساس التوزيع القطاعي للميزانية خلال النصف الأول من 2021، جاء قطاعي الخدمات البلدية والموارد الإقتصادية الأدنى في نسبة المنصرف من إجمالي المعتمد لكل من هذين القطاعين بنحو 28% و37% على التوالي. كما تراجع الإنفاق على أساس سنوي في القطاع العسكري والتعليم بنسبة 1.8% و5.3% على أساس سنوي خلال النصف الأول من هذا العام. وفيما يخص المنصرف من المخصص لكل منهما في الميزانية خلال النصف الأول فقد بلغ 53.6% و49.1% على التوالي. وفي قطاع التجهيزات الأساسية والنقل فقد انخفض الإنفاق بنسبة 19% على أساس سنوي خلال النصف الأول 2021، إلا أن حجم المنصرف مثّل نحو 48.3% من الميزانية المخصصة لهذا القطاع. أما قطاع الصحة والتنمية الإجتماعية فقد ارتفع الإنفاق فيه بنسبة 20.2% على أساس سنوي في النصف الأول 2021، والذي يعزى إلى المصاريف الطبية والفنية في مواجهة جائحة كورونا والوتيرة السريعة في تنفيذ برامج تقديم اللقاح للمواطنين والمقيمين. وقد شكّل حجم المنصرف في هذا القطاع من المعتمد خلال النصف الأول من العام الحالي 52.6% حيث بلغ الإنفاق 91.8 مليار ريال. وتشير هذه النسب إلى حجم التفاوت ما بين القطاعات في نسبة المنصرف من المخصص لكل قطاع، والتي قد تعكس البطء لدى بعضها في تنفيذ البرامج المعتمدة لها.
وفي حين أن المصروفات جاءت مرتفعة بنسبة 3.9% للربع الثاني من عام 2021 مقارنة لنفس الفترة من العام الماضي، إلا أن الإيرادات حققت ارتفاعاً كبيراً بنسبة 85.2% لنفس الفترة على خلفية تحسن أسعار النفط ورفع ضريبة القيمة المضافة، مما ساهم في انخفاض عجز الميزانية للربع الثاني إلى 4.6 مليار ريال.
وقد شكّل الإقتراض وإصدارات الدين المحلي ما مقداره 37.3 مليار ريال في حين بلغت قيمة إصدارات الدين الدولي 36.8 مليار ريال، وبذلك ارتفع إجمالي الدين العام من 851 مليار ريال بنهاية 2020 إلى 923 مليار ريال بنهاية الربع الثاني 2021. إن الإنفاق الحكومي الذي يموّل من خلال الدين العام يقع عبئه الحقيقي على الاستهلاك المستقبلي سواء كان الحكومي أو الخاص في حال اضطرت الحكومة إلى إبقاء ضريبة القيمة المضافة عند مستواها الحالي 15%. وفي ظل التقلبات الحادة في أسعار النفط فإن إتخاذ قرار الاستدانة لابد أن يأخذ في الإعتبار مقدار النقص في إجمالي الإنفاق الحكومي والخاص في المدى المتوسط و البعيد الذي يتوقع التضحية به وتأثيرات ذلك على معدلات النمو الاقتصادي للقطاع غير النفطي. ويأتي من حيث الأهمية الإنفاق الحكومي الاستثماري في قطاعي التعليم والصحة بإعتبارهما إستثماراً في رأس المال البشري الذي لا يقل أهمية عن الاستثمار العيني. كما أن بعض بنود الإنفاق الجاري في هذين القطاعين لهما مضمون استثماري بشري تتعلق بالإنتاجية للفرد، التي يتطلب زيادتها لما لها من آثار إيجابية على الأداء الإقتصادي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال