الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما كانت النظرة التقليدية لمهنة المحاماة تَقُولُ بعدم جواز إعلان المحامي عن نفسه، كانت المهنة أقربُ ما تكون لمعنى العلاقات الشخصية، وحتى العلاقات العشائرية والعائلية الضيقة.
فالمحامي المَحرومُ من حقِّه بالإعلان عن نفسه وخبراته ومسيرته وخدماته، لن يعرفه أو يثق به سوى القِلَّة القليلة من محيطه أو الذين تعرَّفوا عليه بمحضِ الصدفة.
وكان تفسير هذا الموقف الجائر على المحامي، بأنَّ مهنته السامية لا تتناسب مع فكرة الإعلان التي تنطوي على تسويقٍ إعلاميٍّ يُشبِهُ النشاط الترويجي التجاري؛ وهذا لا يليق بمكانة المحامي ومقام مهنته العريقة.
هذه النظرة التقليدية باتت جزءاً من الماضي، وأصبحت بالفعل عقبةً كبرى أمام تطوير مهنة المحاماة؛ حيث إنَّ المحامي سيَبْقَى حبيساً لسمعةٍ محدودةٍ ودائرة علاقاتٍ مُقيَّدةٍ، لا يستطيع توسيعها وتطويرها بسبب القيود الإعلانية الصارمة عليه.
وهكذا، كانت النتيجة على الشكل التالي:
فَشَلُ الكثير من المحامين الناجحين وأصحاب الخبرة، لعدم قدرتهم على الإعلان عن أنفسهم في ظلِّ توسُّع المجتمع.
قِيَامُ بعض المحامين بمخالفة قواعد المهنة، والإعلان عن أنفسهم بما يُخالِفُ النظام بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية سبيلاً سهلاً لهذا الإعلان التسويقي.
بناءً عليه، فإنَّ حرمان المحامي من تسويق خدماته أصبح غير منطقياً بشكلٍ واضحٍ على أرض الواقع؛ بسبب الأثرِ الضارِّ لهذا الحرمان من جهةٍ، ولقدرة بعض المحامين على تجاوزه من خلال الإعلانات الإلكترونية غير المباشرة من جهةٍ أخرى.
بالتوازي مع هذا الوضع المُتَنَاقِضِ، كان الاقتصاد المهني في المملكة يَدخُلُ مرحلةً جديدةً، حيث صدر نظامٍ خاصٍّ بالشركات المهنية -ومنها شركة المحاماة-، وكان من موجبات تطبيق رؤية 2030 هو تفعيل الطاقات الشبابية، وتحريك رؤوس الأموال الوطنية، وتمكين الكفاءات المهنية.
هذا الطموح كان يَحتَاجُ إلى تغيير الرؤية التقليدية تجاه مهنة المحاماة على أساس أنَّها قطاعٌ مهنيٌّ عقيمٌ مالياً واقتصادياً، إلى الرؤية العصرية الواقعية القادرة على تفعيل القدرات، وتثمير الأموال المهنية، وتنمية الكفاءات في الاقتصاد المهني ككل.
من هذا المُنطَلَقِ، كان لا بدَّ من تغيير القواعد التي تَحكُمُ سلوك المحامي، وتنظيم قيام المحامي بالإعلان عن نفسه، بدلاً من حظر هذا الإعلان واعتباره سلوكاً خاطئاً.
وبالفعل، فقد صدرت قواعد السلوك المهني الجديدة لمهنة المحاماة بقرار وزير العدل رقم 3453 بتاري 24-12-1442 هـ، وقد جاء في الفصل السادس منها القواعد الخاصة بـ: “تعامل المحامي مع الإعلام”.
يمكن اختصار أهم القواعد في هذا الإطار من خلال ضوابط إعلان المحامي مع نفسه، حيث إنَّ هذه الضوابط تُمثِّل الخطوط الحمراء للتسويق في الاقتصاد المهني فيما يخصُّ قطاع المحاماة بالذات.
وقد جاءت هذه الضوابط كالتالي (م/38):
ألاَّ يكون الإعلان مُضلِّلاً أو كاذِبَاً أو مُخَادِعَاً؛ كأن يُعلِنَ المحامي عن نفسه بأنَّه دكتور في تخصُّص القانون، في الوقت الذي يكون فيه ما يَزَالُ طالباً للدراسات العليا؛ حيث إنَّ هذا الإعلان يهدف إلى تضليل الناس ودفعِهِم للاعتقاد بوجود كفاءةٍ علميةٍ كبيرةٍ لدى المحامي، الأمر الذي قد يدفَعُهُم إلى توكيله بأتعاب مُبَالَغٍ فيها.
ألاَّ يُخالِفَ الإعلان القواعد أو أصول المهنة وشرفها؛ وهذا ينطبق على جميع قواعد ممارسة المهنة بنزاهة وشفافية، كأن يظهر بمظهرٍ غير لائقٍ في صور حساباته الإلكترونية.
ألاَّ ينتهك خصوصية عملائه أو غيرهم، وسرية معلوماتهم وبياناتهم؛ فلا يجوز للمحامي الإعلان عن كسبه لقضيةٍ حسَّاسةٍ على سمعة أو شرف مُوكِّله حتى يُحسِّن المحامي سمعته المهنية على حساب افتضاح أمر العميل.
وهنا علينا التفريق بين حالتَيْن:
الخصوصية؛ وهي معلوماتٌ وبياناتٌ تخصُّ العميل أو الغير لكنها ليست بالضرورة سريةً؛ مثل وقائع الدعوى وظروفها والبيانات الشخصية، وهي تندرج ضمن حظر الإعلان.
كما لا يجوز للمحامي أن يجيب بشكلٍ تفصيليٍّ عن أسئلة تمسُّ دعوى منظورةً -أو سيتمُّ النظر فيها- أمام القضاء، بغرض التسويق لنفسه، ومنح نفسه صورة الشخص الخبير هادِفَاً استجلاب العملاء لنفسه.
السرية؛ وهي تشمل جميع أسرار الموكل التي استأمنها للمحامي، ومن البديهي عدم جواز الإعلان عنها.
ألاَّ يمسَّ الإعلان بالمهنة أو المرفق العدلي بما يُسهِمُ في زعزعة الثقة أو إضعافها؛ فلا يجوز للمحامي التشهير بزميل له أو أن يُشكِّك في نزاهة قاضٍ في إعلاناته بعد خسارته لدعوى، ذلك بغرض تبرير الخسارة أمام العملاء.
ألاَّ يخالف الإعلان أية تعليماتٍ أو ضوابطٍ تضعها الإدارة المختصَّة؛ وهنا على المحامي متابعة التعميمات والتقيُّد بها في شكل ومضمون إعلاناته.
بالمحصلة، يبدو الاقتصاد المهني أحوج ما يكون لسياسة إعلانية تسويقية في ظلِّ منهجٍ احترافيٍّ، ذلك بما يراعي طبيعة هذا القطاع الاقتصادي غير التجاري من جهةٍ، ويفتح المجال للعمل المهني حتى يدخل عالم الأعمال بما يحمل معه من تنافسيةٍ وربحيةٍ من جهةٍ أخرى.
لكن تبقى بعض الضوابط المذكورة لإعلان المحامي عن نفسه غامضةً بعض الشيء، فهي قد تحتمل أكثر من معنى، مثل مسألة التضليل والخداع؛ فقد يُعلن المحامي عن ربحه لقضيةٍ معينةٍ بشكلٍ حاسمٍ، في ظل إمكانية طعن الخصم بالاستئناف، أو إعلان المحامي عن نفسه كمستشارٍ متخصِّصٍ في دعاوى الشركات رغم أنَّه قد اعتاد على الترافع في الشق المدني أكثر من التجاري.
مثل هذه الوقائع قد تنتشر بسرعةٍ بعد السماح للمحامين بالإعلان عن أنفسهم، فهل سيتمُّ اعتبارها خداعاً موجباً للمساءلة التأديبية؟
هنا نرى أنَّ ضوابط السلوك المهني كانت يجب أن تنصَّ على ضرورة أن يتحلَّى المحامي بالدقة لدى الإعلان عن نفسه وإنجازاته، بحيث يُوضِّح مآل الحكم الذي حصل عليه، ويُبيِّن بشكلٍ تفصيليٍّ مُوجِبَات حديثه عن خبرته ومجال استشاراته.
والله ولي والتوفيق
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال