3666 144 055
[email protected]
كثير من المراقبين يراهنون على أن الأزمة اليونانية ستؤدي إلى تفكك وتحلل الاتحاد الأوروبي إذا لم تصل اليونان ودول الاتحاد إلى حل توافقي في القريب العاجل، وهذا الاستنتاج قد يتحقق، ولكن هناك أسبابا أقوى ستؤدي ــــ عاجلا أو آجلا ــــ إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.
إذا نظرنا إلى خريطة الاتحاد الأوروبي، فإننا نجد أن السياسي يختلط بالاقتصادي، حتى بالنسبة إلى الموقف من الأزمة اليونانية نجد أن هناك دولا مع دعم اليونان والحفاظ عليه في الاتحاد، بينما هناك دول أخرى في الاتحاد ترى أن اليونان غير جادة في تنفيذ الالتزامات وستستمر عبئا ثقيلا على الاقتصادات الأوروبية الأخرى، لأنها أخذت كل الفرص للإصلاح، وإنه لم يعد لدى دول الاتحاد إلا لفظ اليونان من منظومة اليورو حتى لا تعرض الاتحاد ــ في المستقبل ــ إلى مزيد من الأزمات المتلاحقة.
إن النمو الاقتصادي لدول الاتحاد لم يكن في كل الأحوال متساويا أو متقاربا في الاتجاه، بل هناك دول تقدمت اقتصاديا، وهناك دول خيبت الآمال، وكانت النتيجة انقسام أوروبا إلى شمال متقدم لديه وفرة في الاحتياطات النقدية، وجنوب بطيء النمو يتزايد فيه العجز المالي ويعتمد إلى حد بعيد على القروض الداخلية والخارجية في تمويل مشاريعه وتنفيذ برامجه.
إن انخفاض النمو في دول الجنوب الأوروبي بات يلفت الأنظار، بل أضحى يبعث على القلق بشأن مستقبل مجموعة اليورو خاصة والاتحاد الأوروبي عامة، ويذكرنا هذا التقسيم الأوروبي بما كان عليه الوضع أثناء الحرب الباردة، حينما كانت أورووبا تنقسم إلى أوروبا الغربية المزدهرة، وأوروبا الشرقية المتخلفة.
ولذلك ــ بصرف النظر عن الأزمة اليونانية ــ فإن مشروع الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى مشروع للإصلاح، يشمل كل الدول حتى لا تصبح اليونان فقط هي المشكلة، ولكن ستلحقها بعض الدول الأخرى مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن هذا التفاوت بين شمال مزدهر اقتصاديا، وجنوب منكمش اقتصاديا أدى إلى نشوء أحزاب وطنية يمينية متطرفة في كثير من دول أوروبا لا ترحب بالاندماج وتطالب بالعودة إلى الدولة القومية، وبالتحديد فإن الأجيال الجديدة في دول الاتحاد لا تعبر عن ترحيبها بالانضمام إلى الاتحاد، وإذا استمر الانضمام إلى الاتحاد لا يحقق الأحلام التي وعدوا بها، فإنهم سينقلبون على الاتحاد قبل أن يتعرضوا لأزمات اقتصادية كتلك الأزمة التي تتعرض لها حاليا اليونان.
كذلك من الأشياء المقلقة أوروبيا هو الاستفادة العرجاء من قيام الاتحاد الأوروبي، أي أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من قيام الاتحاد، وليس صحيحا أن قيام الاتحاد هو في مصلحة كل دول الاتحاد، ولذلك تفوقت ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى داخل منطقة اليورو خاصة وداخل الاتحاد الأوروبي، بينما كثير من دول الاتحاد عبرت عن استيائها من تفوق ألمانيا، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان.. حتى فرنسا التي تعرضت لأزمة اقتصادية في عام 2014 لحقت باليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وانتقدت استفادة ألمانيا الكبرى من الاتحاد، بينما فرنسا وكل الدول الأخرى لم تستفد من انضمامها إلى الاتحاد بالقدر الذي كانوا يأملون ويطمعون ويحلمون.
إن تمدد الأزمة الاقتصادية إلى دول أخرى بعد اليونان.. هو أمر وارد ومتوقع، ويجب ألا ننسى الأزمة التي اجتاحت إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا، وهذا من شأنه أن يضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على كف عفريت، ويؤكد المزاعم التي كثيرا ما خرجت من هذه الدول، وهي التي تتهم ألمانيا بأنها المستفيد الأكبر من الاتحاد وليس كل دول الاتحاد الأعضاء.
وبصورة عامة فإن فشل التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية سواء في آسيا أو في عالمنا العربي، أو في دول الخليج أو في أمريكا اللاتينية، بل أكثر من هذا، فإن فشل منظمة التجارة العالمية يجعل دول الاتحاد تشعر بالقلق من مصير قد يطولها، إذ إن منظمة التجارة العالمية وعدت دولها الأعضاء بـ “الفردوس الأعلى”، ولكن للأسف لم يتحقق شيء، ولم تلتزم الدول بالاتفاقات التي وقعتها مع المنظمة، بل إن كثيرا من الدول الموقعة مع منظمة التجارة العالمية تنصلت من تنفيذ الاتفاقات ولوحت بأن الاتفاقات هي مجرد وعود بأحلام غير قابلة للتطبيق العملي!
إذا نجحت اليونان في التوصل إلى حلول مع كل الأطراف الدائنة الآن، فإنها لن تفلت في المستقبل من مصيدة الأزمة التي ستحكم قبضتها على رقبة الاقتصاد اليوناني.
لهذه الأسباب وغيرها من الأسباب، فإن القلق يساور معظم دول الاتحاد الأوروبي من مصير الاتحاد إذا ما انفرطت اليونان من سبحة منطقة اليورو، لذلك كثير من الدول تحذر من إبعاد اليونان من الاتحاد، لأنهم يتوقعون بأن انسحاب اليونان سيشجع على انسحابات لعدد آخر من الدول، وبالذات الدول التي لم تعد تطمئن إلى مستقبل الاتحاد، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي ـــ في العموم ـــ معرض للانحلال والتفكك والانفراط.
إن الانتعاش الكبير للاقتصاد الألماني يجعل ألمانيا هي المستفيدة الكبرى من بقاء منطقة اليورو، لأن الزيادة المطردة في الصادرات الألمانية مقابل انخفاض مطرد لصادرات الدول الأوروبية الأخرى لا يحقق المعادلة الاقتصادية المطلوبة، لأن شرط الدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي هو الفائدة لكل الأطراف من تبادل الصادرات والواردات للسلع والخدمات، أما إذا استفادت ألمانيا ولم تستفد الدول الأعضاء الأخرى بالقدر نفسه تقريبا، فإن مبررات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ستتراجع.
وما يحدث الآن هو أن ألمانيا تحقق فائدة عظمى، بينما الدول الأخرى تتفاوت فوائدها من الانضمام إلى منطقة اليورو، ما يجعلها تعيد حساباتها، وربما تتخذ في المستقبل القريب أو البعيد قرارا بالتراجع عن قرار الانضمام إلى الاتحاد.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734