الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
«في زمنٍ أصبحت اللغة العربية هي اللغة العالميّة، وبمعرفتها يستطيع المرء أن يتعامل مع العالم كله» كلماتٌ قالها المستشرق الفرنسي غيوم بوستل «Guillaume Postel» عام1539م، تعكس مدى هيمنة اللغة العربية على لغة الأعمال في العالم، بل إنَّ الرَّحالة «ابن بطوطة 1370م» كَتَبَ في مذكراته أنه لم يجد عائقاً في التخاطب مع شعوب العالم أثناء رحلاته، لدرجة اضطرت الرحالة الإيطالي «ماركو بولو 1320م» تعلم القليل من العربية لتساعده في رحلاته.
كتب الأستاذ نجيب الزامل مقالاً عن اللغة الإنجليزية بعنوان «English»، استعرض فيها هيمنتها، وكيف تحقق ما يصبو إليه «ونستون تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا الذي قال «سنحقق يوما حلم الإنسانية: نهايةُ بابل» حيث كانت مدينة بابل متعددة اللغات بصهر الشعوب تحت بالإنجليزية، كما ناقش الأستاذ إبراهيم الناصري في سلسة مقالات «النمو الكاذب وتعريب العلوم» والضريبة الباهظة التي دفعتها التنمية لازدواجية اللغة. والمتابع لتطور نمو هذه الازدواجية ليدرك أنها ازدادت اتساعاً وفجوةً حتى أصبحت عائقاً يُضاف إلى عوائق توطين الوظائف وبيئة الأعمال السعودية. تُعد اللغة أحد مظاهر سيادة الدول، المحمية بعقوبات لمن ينتهك مظاهر السيادة. فقد أكدت المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم أن اللغة العربية أحد مظاهر السيادة: «المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض». لذا فإنَّ الدول تجعل انتهاك اللغة «جريمة» ترتب عليها «عقوبة». ففي آخر 1975م أصدرت فرنسا قانوناً في استعمال اللغة الفرنسية، يحدد نطاق تطبيقه، وعقوبات جزائية لتنفيذه، ويعين مراقبين لتعقب مخالفيه، وجمعيات طوعيه من المدافعين عن اللغة الفرنسية بحيث تتولى الادعاء في المحاكم ضد المخالفين في استعمالها. أمَّا الدول العربية فإنَّها وإنْ اسعفتها بعض النصوص الجزائية لتجريم الإخلال باللغة العربية إلا أن جهود الجهات الرقابية وأحكام القضاء متواضعة لا تخدم حمايتها كما يجب مقارنةً بالتجربة الفرنسية.
شَددَّ التشريع السعودي على سيادة اللغة العربية، حيث صدر قرار مجلس الوزراء رقم 266 وتاريخ 21/02/1398هـ «1978م» بالتأكيد على الشركات والمؤسسات الأجنبية وفروعها ومكاتبها العاملة بالمملكة باستعمال اللغة العربية في مراسلاتها مع الجهات الحكومية ومعاقبة من يخالف ذلك بغرامة لا تزيد عن 10 آلاف ريال وتضاعف في حالة العود.
كما أكد المقام السامي على جميع الجهات الحكومية والمؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة بالتقيد بالأمر رقم 3-ح-15351 وتاريخ 20-6-1400هـ المؤكدة عليه بالأمرين رقم 3-ح 9574 وتاريخ 27-4-1401هـ، ورقم 3-ح 11152 وتاريخ 12-5-1402هـ والقاضي بأن تلتزم جميع الجهات الحكومية والمؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة باستعمال اللغة العربية في مراسلاتها وفي تحرير العقود ومرفقاتها ووثائقها المختلفة التي تتم بين هذه الجهات والشركات والمؤسسات الأجنبية.
وأكدَّت برقية لولي العهد في 11/07/1400هـ «1980م» بالتأكيد على استعمال اللغة العربية حيث جاء فيه «وبالرغم من أن مجلس الوزراء سبق أن اتخذ قرارين برقم 233 في 17 – 2 – 79 ورقم 266 في 21 – 2 – 98 بإلزام الشركات والمؤسسات الأجنبية وفروعها العاملة بالمملكة باستعمال اللغة العربية، وحيث إن العقود المحررة باللغات الأجنبية غالبا ما تكون مصاغة تخدم مصلحة الطرف الأجنبي عند تفسيرها وترجمتها إلى اللغة العربية، ولأنه من الواجب استعمال اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للمملكة، فيقتضي أن تلتزم جميع الجهات الحكومية والمؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة باستعمال اللغة العربية في مراسلاتها وفي العقود ومرافقاتها ووثائقها المختلفة التي تتم بين هذه الجهات والشركات والمؤسسات الأجنبية، وهذا لا يمنع من ترجمتها إلى اللغة التي يتعرف عليها الطرف الثاني للعقد». كما تضمَّن نظام العمل وجوب استعمال اللغة العربية مع الموظف في عقد العمل، والتوجيهات الموجهة له، والتحقيق معه، ويجوز استعمال لغة أخرى إلى جانب اللغة العربية على أن يكون النص العربي هو المعتمد دوماً. وفرضت وزارة العمل غرامة تتراوح بين ألفي و5 آلاف ريال على عدم استعمال اللغة العربية في البيانات والسجلات والملفات وعقود العمل والتعليمات التي يصدرها صاحب العمل لعماله. وكذلك ألزمت وزارة التجارة كافة المنشآت والأسواق والمحلات التجارية استخدام اللغة العربية في جميع الفواتير، وبطاقات السعر، والإعلانات، والعقود، وعروض الأسعار، وجميع المطبوعات، وشهادات الضمان، مع إمكانية استخدام اللغة الإنجليزية كلغة إضافية، وفرض غرامة تصل إلى 100 ألف ريال لما جاء في نظام البيانات التجارية الذي ألزم أن يكون البيان التجاري مكتوباً باللغة العربية. وألزمت هيئة السياحة مرافق الإيواء السياحي باستخدام اللغة العربية في التخاطب مع العملاء.
كما أن نظام المرافعات قد نصَّ على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للمحاكم، وأن ترجم الوثائق الأجنبية إلى اللغة العربية. وتشهد أروقة المحاكم جدلاً في الترجمة المناسبة للعقود على نحو يجعل الحكم مرهوناً بدلالة الترجمة، الأمر الذي يزيد مخاطر العقود المحررة باللغة الانجليزية. وبالرغم من أنَّ اللغة الرسمية للدولة هي العربية، إلا أن اللغة الإنجليزية لا تزال هي لغة العديد من الأعمال التجارية لدرجة يمكن القول فيها بأنَّ أغلب القطاع الخاص قد أصبح خاضعاً لها توظيفًا ومراسلات وعقوداً. إنَّ ريادة خلق الوظائف تُولَدُ في القطاع الخاص في وقت توقف فيه نمو القطاع الحكومي الذي قاد قاطرة النمو وحافظ على سيادة اللغة العربية في حين لم تسعف التشريعات سيادة اللغة العربية في القطاع الخاص رغم محاولات الجهات الرقابية. وحتى إنَّ المتحدث بفصحى اللغة العربية بات غريباً؛ لكونها مخصصة كلغة كتابة، أما لغة المخاطبة فإن العامية و«فصيح العامي» هو البديل، الأمر الذي يعزل الأجنبي الذي درس الفصحى عن كثير من لغة الخطاب بالعربية واقتصاره على لغة الكتاب. ويبدو أن هيمنة اللغة الانجليزية أصبحت واقعاً لدرجة يعد من المستهلك للوقت والجهد السباحة ضد التيار بتجاهل فشوها وانتشارها، في حين يفترض أن ترُكَّز الجهود على الحد الأدنى لاستعمال اللغة العربية، وتقوية مستوى اللغة الانجليزية. فمن العبث أن يدرس الطالب سنوات باللغة العربية ثم يطلب منه إتقان اللغة الانجليزية كشرط للتوظيف أو لمواصلة الدراسات العليا في الجامعات السعودية حتى في التخصصات العربية! تشير بيانات الملحقيات الثقافية إلى تعثر الطلاب المبتعثين في تعليم اللغة، في حين يحقق طالب الثانوية بدولة خليجية ما متوسطه 5 في امتحان اللغة الإنجليزية -الآيلتس «IELTS»؛ مما يدل على أن مخرجات التعليم العام بحاجة إلى الاضطلاع بمسؤوليتها لسوق العمل «المزدوج اللغة»، ومن جهة أخرى التركيز على تقوية مهارات اللغة العربية عبر اختبارات قياسية.
فمبادرة الجامعة السعودية الإلكترونية بتنفيذ برنامج «اختبار العربية المعياري»، يجب أن تكون جهداً مؤسسياً، لرفع مستوى تحرير اللغة العربية كلغة أعمال لكي لا تضمر في مقابل غزو اللغة الانجليزية لكثير من مجالات الحياة. إنَّ الإيمان بحقيقة وواقع «ازدواجية لغة الأعمال» يجب أن تقابل بجهود لتعزيز مستوى اللغة العربية، وحمايتها بتشريع الحد الأدنى الذي يعد انتهاكه مخالفة، وفي الوقت ذاته رفع مستوى تعليم اللغة الانجليزية لدى الجيل القادم، من جانب آخر فإنَّ إحياء اللغة العربية يتطلب نشاطاً في حركة الترجمة، وزيادة أعداد المترجمين. فالترجمة هي الجسر الأقوى بين الشعوب، ولها الفضل في القضاء على عزلة الشعوب، وتقارب الثقافات بكل أنواعها، فالترجمة العلمية تصنع حضارات الأمم، فالحضارات تبُنى بحجم ترجمتها، والتجربة اليابانية والصينية جديرة بالتأمل التي حولت هيمنة لغة العولمة إلى مادة رفعت مستوى التنمية لشعبها بلغته.
إنَّ اللغة العربية هي الخامسة عالمياً بعد الصينية والانجليزية والاسبانية والهندية، وبالرغم من أنَّ تلك اللغات تعاني من هيمنة الانجليزية إلا أنها فرضت وجودها في التنمية، وَوَازنت بين المثاقـفـة والعـولـمـة. فهل ينتصر رجال العربية لها، كما صَاحَ بهم «محامي العربية» مصطفى الرافعي: أُمٌّ يكيدٌ لها من نسلها العقبُ * ولا نقيضةٌ إلا ما جنى النسبُ كانتْ لهمْ سبباً في كلِّ مكرمةٍ * وهم لنكبتها من دهرها سببُ لا عيبَ في العربِ العرباءِ إن نطقوا * بينَ الأعاجمِ إلا أبهم عربُ إذا اللغاتُ ازدهرت يوماً فقد ضمنتْ * للعُرْب أي فخارٍ بينها الكتبُ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال