الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أكاديمي متخصص في المحاسبة
Yasseralnaf@gmail.com
مهنة المحاسبة والمراجعة هي مهنة معنية بالمقام الأول بتقديم خدمة معلوماتية مفيدة للمستخدم من متخذي القرارات. فالمحاسبة عنيت بالتعبير الصادق والعادل عن صحة المنشآت المالية سواء كانت تلك المنشآت ربحية او غير ربحية. كما عنيت مهنة المراجعة من الجانب الآخر على التأكيد وزيادة الثقة في مصداقية وعدالة ما ينتجه النظام الأول (المحاسبة). وانطلاقا من هذه الأهمية اتت الانظمة السعودية المعنية بمهنة المحاسبة والمراجعة والمكونة لهيئة تنظم وتعنى بالمقام الأول بمهمة تطوير هذه المهنة في المملكة العربية السعودية. هذه الهيئة ما هي في النهاية الا حصيلة ما تقدمه الاقسام العلمية المتخصصة بهذا المجال في الجامعات عموما والجامعات السعودية خصوصا باعتبار احتواء هيكل الهيئة على مشاركة الاكاديميين والمهنيين في مهمة تطوير المعايير المهنية واثراء الوسط المهني.
في الآونة الاخيرة ظهرت بعض الانظمة والمبادرات والمشاريع الحديثة المتوجهه نحو مزيد من الحوكمة وكجزء من ذلك مزيد من الشفافية المالية والرقابة الصارمة على الموارد الاقتصادية لمنشآت مختلفة المجالات. فمثلا توجهت وزارة التجارة الى إلزام المنشآت العاملة في المجال الصناعي سواءا كانت منشآت مساهمة او منشآت اشخاص بتقديم قوائم مالية محكمة (مراجعة). وفي نفس الجانب حضر مشروع وزارة الشئون الاجتماعية الذي أكد على تطبيق مبدأ الحوكمة داخل القطاع الخيري المتمثل بالجمعيات الخيرية عازيا ذلك الى ضرورة وجود رقابة صارمة على الموارد الاقتصادية لهذه الجميعات والتأكد من عدالة مصروفاتها وحماية مواردها. فكانت المبادرة محتمة على العمل مع المكاتب المحاسبية لتطبيق هذا المشروع. وايضا في نفس السياق هناك بوادر حول أهمية تقديم الاندية الرياضية لقوائم مالية معتمدة من مراجع خارجي مستقل.
هذه المشاريع تعطي مؤشرا قويا عن وعي المسئول اليوم بشكل اكبر حول ضرورة وجود انظمة محاسبية سليمة متناغمة مع الرؤية الاقتصادية لوجود تلك المنشآت بشكلها المختلف واهدافها المختلفة. فالنظام المحاسبي لا تتجاوز اهدافه خدمة المستخدمين وهم بشكل عام المجتمع المحيط بهذه المهنة والمستفيد من مخرجاتها. فإن كان جزء من مجتمعنا قد امتلك منشآت صناعية فالجزء الاخر قدم معونات وتبرعات مالية لمنشآت خيرية. لذلك المجتمع بأكمله بالاضافة الى المسئول والمراقب الاداري بحاجة لوجود تقارير تخدمهم لتقييم العمل.
هذا التزايد في الوعي والطلب على منتجات المحاسبة والمراجعة يجعل اليوم الضغط أعلى على الاقسام العلمية للمحاسبة وايضا على الجهة المنظمة لهذه المهنة في المملكة العربية السعودية. ففي النهاية المحاسب او المراجع هم من سيقدم تلك التقارير وتلك المرئيات حول الحالة المالية لتلك المنشآت. فان لم يكن لدينا كوادر بشرية سعودية مؤهلة للقيام بهذه العملية و حاملة للسلوك المهني المطلوب و ملتزمة بالمعايير والقوانين المهنية لن يكون هناك اي فائدة من هذه المبادرات والمشاريع بل ايضا سيكون ذلك على حساب سمعة هذه المهنة و من يمتهنها عموما.
دائما المحاسب والمراجع مطلوب منه او هو التزام عليه بان يضع سمعة المهنة عموما امام نصب عينه فما يقوم به من سلوك سيكون محل تقييم للمهنة بشكل كامل. فحين تحدث فضيحة مالية ويكون جزء منها محاسب او مراجع عندها يكون الحمل الاكبر دائما على هذا الشخص لكون وجوده من الاساس كان مطلوبا للتاكد من اعطاء معلومات سليمة عن حالة المنشآت.
لذا اليوم يجب ان يكون التناغم أعلى من اي وقت مضى بين الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين والجامعات السعودية على ضرورة توفير مخرجات تمتلك القيمة العلمية المطلوبة بالاضافة الى ضرورة تعزيز القيم الاخلاقية فزيادة الطلب على المهنة ومخرجاتها يرافقه دائما زيادة الموارد المالية المحتملة لمن يمتهن هذه المهنة. وعليه يجب ان لا يكون التأهيل العلمي بمنأى عن أهمية التأهيل الخُلُقي والسلوكي عموما. فمن أجمل العبارات التي استمعت لها من احد الكوادر العلمية في قسم المحاسبة باحد الجامعات ” الطالب في قسم المحاسبة حين لا يلتزم بالخلق والسلوك المطلوب لا يجب ان يستمر بالقسم لأنه اذا لم تعزز لديه القيم الاخلاقية اليوم كيف به ان يؤتمن على اموال العامة غدا في اي منشأة من المنشآت”.
بعد حادثة افلاس شركة انرون البترولية الشهيرة بأمريكا في عام 2000 م حين ارتبط بتلك المشكلة تواطؤ المراجع الخارجي الذي كان يعد من اكبر مكاتب المحاسبة، كان من ضمن الأسئلة المطروحة والمتطرفة سؤال هو : هل فعلا مهنة المحاسبة والمراجعة يجب ان يعتمد عليها بعد اليوم؟ فهذا السؤال الذي تقريبا ألغى اهمية هذه المهنة تبعا لتخلفها عن القيام بدورها في حالة انرون مما جر المهنة عموما الى التقييم عن مدى الحاجة لوجودها اساسا من عدمه، بل أن هناك من طلب فرض الوصاية عليها وعلى ممتهنيها من خارج أهلها. فكثير من الأراء التي ظهرت بعد مشكلة موبايلي المحاسبية ظلت متساءلة حول حدوث الخطأ المحاسبي ومن يكون المسئول عن ذلك هل هو مجلس الادارة (متمثلا بالجهاز الاداري المعد لتلك القوائم المالية)؟ هل هو المراجع الخارجي؟ وما هو دور الهيئة السعودية للمحاسبين؟ هل المعايير المحاسبية السعودية ملائمة للتطور المتسارع في وسط الأعمال؟ هل تملك الهيئة السلطة على المراجعين بخلاف الزمالة التي تصدر؟ هل هيئة سوق المال تملك سلطة على المراجع الخارجي؟ هل نحن بحاجة الى هيئة مشابهة لل PCAOB في امريكا لمراقبة الاداء المهني المحاسبي؟
وهنا نلاحظ كيف ان الخطأ المحاسبي يترتب عليه كل هذه الاسئلة العميقة بل ان عدد الابحاث حول مهنة المحاسبة والمراجعة وضرورة الرقابة والحوكمة تتزايد في كل مرة مع ظهور لحالة فشل. لذا برأيي ان المهنة اليوم باتت مطلبا واضحا للمسئول الذي أرادها عاملا مساعدا له في تحقيق الاهداف العليا للمجتمع، وعلى هذا فيجب ان تكون مخرجات التعليم المحاسبي متزامنة مع هذا الطلب العالي المتوقع ومع هذا الوعي العالي والثقة الظاهرة بشكل قوي ومؤثر.
المحاماة والطب والهندسة والمحاسبة كلها مهن تحتاج بالاضافة الى القدرة الفنية والتكنيكية في التعامل مع الاحداث الى الوعي الحديث بمتطلبات المرحلة والتطورات الحديثة في المهنة عموما محليا ودوليا. فالتحول المتوقع الى المعايير الدولية لابد ان يكون له اهتمامه في التعليم المحاسبي، و حالات التخلف المهني واسبابها لابد ان تكون نقاط نقاش لبحوث الاكاديميين بحثا عن الاصلاح والتطوير. ولن يكون ذلك بلا شك بدون مشاركة وتعاون المهنيين مع الاكاديميين في البحوث التي يقدمون من خلال الاستجابة وتوفير للبيانات المطلوبة لاعداد بحوث ميدانية ذات نفع ومردود على المهنة.
حين يمارس المهنة شخص لا يحمل الاهلية العلمية والقانونية تجد ان الامر لابد ان يكون مدار حديث واسع ونقاش عميق يصل الى المهنة عموما. فمثلا اطلعتنا صحيفة الاقتصادية اخيرا ان الهيئة السعودية قد احالت عدد من المتقدمين(الغير سعوديين) للزمالة او للعضوية الاساسية للمساءلة جراء حملهم لمؤهلات علمية وهمية فهنا ايضا عبء جديد على المهنة بضرورة التعاون مهنيين واكاديميين و منظمين في مقاومة دخول غير اصحاب المهنة الى المهنة بشكل غير نظامي. تزايد الطلب على مكاتب المحاسبة وعلى الانظمة المحاسبية في المنشآت سيعني تزايد للطلب على الشخص المهني المؤهل مما قد يجر البعض الى الدخول الى المهنة بشكل غير قانوني لذا هو من الضروري ايضا زيادة الوعي والالزام لمرتادي المهنة من التأكد من اهلية المتقدم علميا ومهنيا واخلاقيا.
اصحاب مكاتب المحاسبة و ملاك المنشآت ليسوا في معزل عن جانب تطوير المهنة التي تعتبر هامه لكل منهم. فرغم المتطلبات القانونية المعنية بالسعودة والمنادية بها الا ان كثير من المكاتب والمنشآت خصوصا الاقسام المالية تعتمد بدرجة كبيرة جدا حتى الآن على العنصر الاجنبي. بطبيعة الحال لا نستطيع ان نلقي باللوم كاملا على هذه الجهات في حالة عدم وجود كفاءات وطنية تستطيع سد الثغرة ففي النهاية الهدف هو وجود كفاءات قادرة على العمل بالشكل السليم والمحقق للهدف وقد تكون بعض الكفاءات الاجنبية ذات قيمة تحتاجها المنشأة او المكتب بل تحتاجها المهنة عموما لما تمتلك من كفاءة وخبرة وقدرات.لكن هناك كثير منها لا يتميز بشيء سوى انخفاض التكلفة احيانا و ضمانة الجهة بقلة فرصة خروجه من المنشأة.
ونهاية هذا المشهد الشائع يستدعي تساؤل المسئول حول الاسباب المؤدية الى ذلك وهي لن تتجاوز ادوار الجامعات والهيئة واصحاب المهنة في بناء عنصر وطني بشري كفؤ ومؤهل. وأنا اعلم حقيقة ان هناك الكثير من الكفاءات السعودية القادرة التي تحتاج الى فرصة ودعم دون وصاية بعض العناصر الاجنبية (التي للأسف يكون هدفها هو عرقلة مسيرة الشاب المواطن منعا لاحتمالة الاحلال مستقبلا!). وابرز مثال لتناغم الجهات العاملة في المهنة مع الجامعات والمخرجات الوطنية هو برامج التدريب التعاوني والتي تعمل بها كثير من الجامعات لكن للأسف لطبيعة عمل الاقسام المالية وحساسية المعلومات لديها تقل فرص المتدرب في الحصول على مكان داخل تلك الاقسام او ان تلك الجهات تعلن عن فرص تدريبية تعاونية للطلبة كمسمى ومن اجل السمعة والدعاية فقط دون اي برنامج واضح يستهدف التطبيق الفعلي للمسئولية الاجتماعية وايضا محاولة التعامل مع المتدرب والتدريب عموما على انه جزء من برنامج استقطاب الكفاءات الوطنية.
خاتمة: يجب أن نتعامل دائما مع المهن على أنها مجتمع متكامل ما يؤثر في جزء منه ينجر الى باقية فلابد من تعزيز الانتماء لهذا المجتمع والتأكيد على وجود الالتزام نحوه بتقديم افضل المنتجات ذات الجودة العلمية والمهنية والاخلاقية المطلوبة.
النفيسة
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال