الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الاقتصاد علم مستقلٌّ ومتكامل، يستند على قواعد نظريَّة وتطبيقات كميَّة، وليس فرعًا من فروع علم الاجتماع ، كما يحلو لبعضٍ وصفه. نظريَّات علم الاقتصاد وما يتفرَّع منها لا يتقصرعلى تحليل قرارات الانتاج والاستهلاك والادِّخار والاستثمار والعمل والنقود والضرائب. إنَها تشمل أنشطة الأفراد كافَّة وسلوكيتهم ، وفعاليَّات المجتمع. فغالبيَّة القرارات التي يتَّخذها الأفراد في دورة حياتهم اليوميَّة، تستند على أسس علم الاقتصاد، وإن لم يعوا ذلك.
منذ قيام التجمعات البشريَّة الأولى، شكَّلت الجريمة مصدر قلق للأفراد والمجتمعات، وتطلَّبت معالجتها حيِّزًا كبيرًا من جهود الأفراد والسلطات الحكوميَّة. ومع تطوُّر الحياة، واتِّساع حجم المراكز الحضريَّة غدت الجريمة وارتفاع معدَّلاتها وانتشارها أحد أصعب مشكلات الاقتصاد الحضري لما تسبِّبه من كلف مرتفعة للضحايا والمجتمع. وتأثيرها في قرارات الأفراد وخياراتهم، كتحديد موقع سكن الأسرة، وتوزيع المشاريع الانتاجيَّة والخدميَّة وسواها.
لعل من المفيد التنويه بأنَّ التحليل الاقتصادي لدوافع الفرد لارتكاب الجريمة، المقدم في هذه المشاركة يقتصرعلى عمليات السرقة والاستحواذ على النقود والمواد العينيَّة ذات قيمة، أو منفعة، ولا تشمل جرائم العنف العاطفي، أو الشخصي، وسواها من الجرائم.
يرتكز التحليل الاقتصادي لدوافع الأفراد الجرمية على فرضيَّة عقلانيَّة “المجرم المرشَّح” لارتكاب الجريمة، وتوظيفه معياري المنفعة الحدِّية والكلفة الحدِّية. ووفقًا للنظريَّة، يتَّخذ الفرد العقلاني قراره للإقدام على السرقة بناء على مقايسة المنافع المترتِّبة عنها، والمتمثِّلة في قيمة المادة المسروقة بكلفة الجريمة، وعلى مماثلة المنافع المترتِّبة عن دخله القانوني الراهن مع الدخل المتوقَّع من ارتكاب السرقة. يتمُّ تنفيذ السرقة إذا فاقت قيمة المنافع كلفة ارتكابها، “السجن والعقوبات الماليَّة”، وتفوُّق الدخل المتوقَّع منها على دخله القانوني.
ثمة أربعة عوامل أساسيَّة تتحدَّد بها الكلفة المتوقَّعة من ارتكاب الجريمة،وتأثيرها في قرار”المجرم المرشِّح” وهي:
احتمال إخفاق محاولة السرقة، والوقوع في قبضة العدالة ودخول السجن.
أمد المحكوميَّة، والكلف المترتِّبة عن ارتكاب الجريمة.
كلفة الفرصة البديلة لوقت السجين التي تتباين وفقًا لمستوى دخله المالي وقدرته الاقتصاديَّة .
كلفة المعاناة ” Anguish Costs” المترتِّبة عن ارتكاب الجريمة التي تتوقَّف على تكوين الفرد الأخلاقي، والتزامه العقائدي.
ما الذي يمكن أن يثني “المجرم المرشَّح” عن ارتكاب الجريمة؟
تقترح النظريَّة حلًّا تقليديًّا يكمن في تشديد العقوبة وإطالة أمد المسجونيَّة. هذا الإجراء يرفع كلفة السرقة الحديَّة ممثلة بالمنفعة الحديَّة المتوقَّعة من السرقة- “قيمة المواد المسروقة”، وفي المنفعة الحديَّة لدخل العمل القانوني. لا شكَّ في أنَّ احتمال دخول السجن الطويل يؤثِّر في قرار غالبيَّة الأفراد ذوي الميل لخرق القانون.
لكن يبقى السؤال، ما مدى استجابة سلوك مرتكبي الجرائم لرفع حدود العقوبة، وزيادة مدَّة المحكوميَّة؟
ثمَّة خلاف واسع بين الخبراء والمختصِّين على أثر قرار تصعيد الردع القانوني وفاعليَّته على سلوك “المجرم المرشَّح”وقراراته. فمن جانب، بيَّنت دراسات أكاديميَّة وبحوث تطبيقيَّة عديدة صحَّة جدوى التوقُّع النظري لاقتصاد الجريمة. وبرهنت على وجود علاقة عكسيَّة بين رفع كلفة الجريمة الحديَّة وإقدام “المجرم المرشَّح” العقلاني على ارتكاب السرقة. وعلى عكس الموقف المؤِّيد، وجدت دراسات أُخرى ضعف تأثير زيادة أمد المحكوميَّة في معدَّل الجريمة. وعزت الضعف لسببين أساسين: الأوَّل، إطالة مدَّة المحكوميَّة تجعل المجرمين أكثر صلابة، واستعدادًا لارتكاب الجرائم متى ما استردُّوا حريَّتهم. والسبب الثاني، تأثير “مدارس السجون”، وإطالة مدَّة المحكوميَّة تتيح للسجين فرصة أفضل لإتقان طرق تنفيذ الجرائم، وتقليل مخاطر عواقبها مستقبلًا، الأمر الذي يخفِّض كلفة الجريمة الحديَّة ،والتحفيزعلى تنفيذ الجرائم بشكل أكثر احترافيَّة مستقبلًا.
هل يؤثر مستوى دخل الافراد في قرارات عقوبة ارتكاب الجريمة؟
النظريَّة الاقتصاديَّة للجريمة تؤكِّد قوَّة تأثير عامل الدخل في قرار الأفراد في ارتكاب الجريمة. والسبب في ذلك، يعود إلى ارتفاع كلفة الفرصة البديلة للمكوث في السجن بارتفاع مستوى الدخل الفردي، مما يقلِّل احتمال ارتكاب أصحاب الدخول المرتفعة جرائم السرقة.
لا يقتصر التحليل الاقتصادي للجريمة على تفسير سلوك الأفراد الإجرامي، بل يقدِّم لنا تفسيرات لمجموع النشاط الجرمي المجتمعي أيضًا، وتحديد كميَّة الجريمة التوازنيَّة، باستخدام نماذج التحليل الاقتصادي.
لنشاط الجريمة أسوة بغيره من الفعاليَّات البشريَّة منحنيات الكلفة الحديَّة “العرض”، ومنحنيات المنفعة الحديَّة المترتِّبة عن النشاط. يوضح منحنى الكلفة الحديَّة العلاقة الكميَّة بين عدد الجرائم المرتكبة و”سعرالجريمة” المتمثِّل في القيمة السوقيَّة للمواد المسروقة. ترتفع كميَّة الجرائم مع ارتفاع سعر المواد المتوقَّعة سرقتها، أو قيمتها مع وجود حدٍّ أدنى لقمية المواد التي لا يرتكب الأفراد الجريمة دونها.
أمَّا منحنى “المنفعة الحديَّة” فيعكس العلاقة الموجبة بين المنفعة المترتِّبة عن ارتكاب الجريمة وقيمة السلعة المسروقة. انخفاض قيمة السلعة المسروقة، يتأتَّى عنه تراجع المنفعة المحتملة من ارتكاب الجريمة، ممَّا يقلِّل كميَّة السرقات. الكميَّة التوازنيَّة للجريمة، يحدِّدها تساوي المنفعة الحديَّة من ارتكابها مع كلفتها الحديَّة.
ما هي السبل ذات البعد الاقتصادي المتاحة للمجتمع، وسلطاته التشريعيَّة والتنفيذيَّة لخفض كميَّة الجريمة التوازنيَّة؟
يقدِّم لنا التحليل الاقتصادي حلًّا واضحًا. رفع الكلفة الحديَّة لارتكاب الجريمة برفع عقوبة المسجونيَّة وأمدها، من شأنه تقليل كميَّة الجريمة التوازنيَّة. ارتفاع عقوبة المسجونيَّة، يمثِّل عامل ردع مؤثِّر في قرار “المجرم المتوقَّع”، وآليَّة واسعة الاستخدام في سياسات مكافحة الجريمة
هذا الحلُّ، يتطلَّب زيادة الموارد الماليَّة والبشريَّة المخصَّصة لمكافحة الجريمة، وزيادة عدد فراد الشرطة، وتوسيع طاقة المؤسَّسات القضائيَّة.
( يتبع)
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال