الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
@A_ArRasheed
لا يخلو مجتمع من مشكلة الفقر، فهو حالة اجتماعية اقتصادية لها أسبابها المتعددة، إلا أن المجتمعات تتفاوت في قدرة الأفراد والأسر فيها على كسر دائرة الفقر والانعتاق منها للصعود إلى مستويات اقتصادية اجتماعية أعلى. ولا أعني هنا حصول الفقراء على المساعدات المباشرة من غذاء وملبس ومأوى، وإنما أعني إتاحة الفرصة لهم للارتقاء في السلم الاجتماعي بقدراتهم دون الحاجة للدعم المباشر.
ويمكن عرض المسألة من خلال هذا السؤال: ما احتمال أن يخرج الطفل المولود في أسرة فقيرة من دائرة الفقر ليحقق طموحاته الاقتصادية بالانتقال إلى طبقة أعلى في المجتمع ويستمتع بحياة كريمة؟
وللإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق لا بد من معلومات تفصيلية على دخول الأفراد والأسر في المجتمع خلال فترة زمنية طويلة، وهذه المعلومات غير متوفرة لمجتمعنا، ولكني أكاد أجزم أن الاحتمال الوارد في السؤال ضعف كثيرا في السنوات الأخيرة. فالقدرة على كسر دائرة الفقر تبنى على أسس خدمية تبدأ بالرعاية الصحية الأولية للأم الحامل لتحقيق صحة أفضل لمولودها تمكنه من النمو العقلي والبدني السليم، ثم الرعاية الصحية للطفل ومتابعة نموه وحصوله على اللقاحات الضرورية، والاستجابة السريعة والصحيحة لأي عارض صحي قد يلم به، مع برامج توعوية تعين الأسرة على تربية الأولاد بالشكل الصحيح. ثم يأتي التعليم بعد ذلك ليستقبل هذا التلميذ السليم بدنا وعقلا فيسخِّر له بيئة تعليمية جيدة يتلقى فيها أحدث المناهج من خلال معلمين أكفاء يزودونه بكل ما ينفعه ويجعله قادرا على إدراك واقعه وتحديات عصره بشكل صحيح، ويجهزه بما يحتاج للتغلب على تلك التحديات.
الصحة والتعليم هما أول جبهات الحرب على الفقر لأن تأثير النجاح فيهما لا يخفف معاناة الفقير بل يمكنه من كسر دائرة الفقر ويتيح له فرصة عادلة للانتقال إلى أعلى السلم الاجتماعي، وهما كذلك أهم الخدمات الأساسية التي توفرها الدول لسكانها مجانا، وما لم ترتقِ تلك الخدمات المقدمة للفقراء فإن دائرة الفقر تزداد قوة وتصبح عصية على الكسر، ويمسي مصير المولود في أسرة فقيرة هو الاستمرار في حالة الفقر قسرا بحرمانه من النشأة السليمة التي تمكنه من الاستفادة من الفرص المتاحة للحصول على دخل أفضل وتغيير واقعه الاقتصادي.
ولكن وللأسف الشديد نلاحظ أن الخدمات العامة الأساسية المتمثلة في الرعاية الصحية والتعليم تتراجع بشكل مخيف، والمخيف بشكل أكبر هو أن معظم الحلول المطروحة تدور حول التخصيص وتوفير تلك الخدمات من خلال مؤسسات ربحية خاصة. وهذا التوجه قد يوجد ما يدل عمليا على أنه يؤدي إلى تقديم خدمة أكفأ، إلا أن الاستفادة منها ستكون لفئات محددة قادرة ماديا، ويحرم منها من يحتاجها للانعتاق من الفقر، بل ربما كانت في هذه الحال عونا للفقر على الفقراء.
التفاوت في الدخل والثروة أمر طبيعي في المجتمعات إلا أن حدة هذه التفاوت تختلف من مجتمع لآخر وكلما كان التفاوت اقل وكان مبنيا على مبررات اقتصادية مقبولة كان المجتمع مستقرا أكثر، وكلما كانت الفرص في المجتمع متاحة للجميع دون تمييز أو محاباة كانت البيئة الاجتماعية حيوية ومحفزة للعمل والنجاح وإن وُجِدَ الفقر. ومن نذر الشر وعدم الاستقرار أن تستأثر بالفرص المتاحة فئات معينة دون غيرها، فلا يستطيع من كان قَدَرُه أن يولد في أسرة فقيرة المنافسةَ على الفرص المتاحة؛ لأنه لم يهيأ لها بحرمانه من الرعاية الصحية المناسبة ومن التعليم العام الكفء.
وفي الختام يمكن القول بأن من أبرز أسباب الاستقرار الاجتماعي المساواة في إتاحة الفرص للجميع، وعلى الحكومات أن تجتهد في تمكين الجميع دون استثناء من تلك الفرص ليفوز بها الأكفأ دون أي اعتبار آخر، ولا يمكن لابن الفقير أن يستفيد من تلك الفرص ما لم تمكنه الخدمات الصحية والتعليمية الحكومية من المنافسة العادلة مع غيره من أبناء المستويات الأعلى في المجتمع الذيم يحصلون على أفضل البدايات من خلال رعاية صحية وتعليمية متقدمة يحصل عليها إما من خلال قدرة أسرته المالية أو قدرتها على الحصول على أفضل ما توفره الحكومة من خدمات يحرم منها غيره.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال