الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يواجه صناع القرار الاقتصادي في جميع الدول تقريبا تحديات اقتصادية، سواء على المدى القصير أو المتوسط أو على المدى الطويل. ففي بعض الدول تكون الأولوية للتعامل مع أزمة آنية كما حدث في دول منطقة اليورو على سبيل المثال، ما يعني إعطاء وزن أكبر للمدى الزمني القصير الذي يتطلب القيام بالتصحيح الاقتصادي اللازم لإعادة التوازن إلى الاقتصاد ليتمكن بالقيام من عملية الإصلاح ذات المدى الزمني الطويل اللازمة لاستدامة النمو الاقتصادي في المستقبل. بينما تكون الأولوية في دول أخرى والتي تتمتع باستقرار اقتصادي التعامل مع مدى زمني أطول يتطلب إجراء إصلاحات هيكلية تضمن رفع إمكانات النمو على المدى الطويل وتعزز من رفاهية المواطن. وفي دول أخرى تقع فيما بين الدول التي لا تعاني أزمة آنية ولكن من الواضح أن استمرار السياسات الاقتصادية على ما هي عليه، سيؤدي إلى أزمة على المدى المتوسط، ما يتطلب التركيز على الإصلاحات على المدى الزمني القصير والطويل لكي تكون هنا استدامة للنمو والاستقرار الاقتصادي.
لكن بالطبع الدول تختلف من حيث طبيعة هذه التحديات، وأكثر هذه التحديات صعوبة في التعامل معها، هي تلك التحديات المتعلقة بهيكل الاقتصاد نفسه، وما إذا كان هناك حاجة لإجراء إصلاح في هذه الجانب. فمن ناحية يمكن تشبيه السياسات المالية والنقدية بالغذاء الذي يتناوله الإنسان ليمكنه من الاستمرار في ممارسة نشاطه اليومي بشكل صحي، والإفراط في أي منهما قد يؤدي إلى الحاجة إلى خلل في وظائف أعضاء الجسم نتيجة السمنة المفرطة (العجز المالي أو التضخم النقدي مثلا). ومن ناحية أخرى يمكن تشبيه السياسات الهيكلية بأعضاء الجسم المختلفة والتي يجب أن تعمل في تناغم مع أعضاء الجسم الأخرى، ما يعني أن أي خلل في أي من هذه الأعضاء، فإنه سيؤدي إلى التأثير في عمل الأعضاء الأخرى، وفي النهاية في نشاط الإنسان. لذلك، فإنه في حين أنه يمكن رؤية وملاحظة التغيرات المطلوبة في السياسات المالية والنقدية لأنها ذات مدى زمني قصير ومتوسط، فإن الخلل في السياسات الهيكلية قد يكون أكثر صعوبة في ملاحظته على الرغم من أنه يمكن التنبؤ به إذا تم أخذ الحيطة اللازمة لذلك بإجراء التقييم الدوري اللازم لهذه السياسات.
وأحد أهم التغيرات الاقتصادية التي تواجه الكثير من الدول سواء المتقدمة منها أو الاقتصادات الصاعدة هي التغيرات الديموغرافية للدول وتأثير ذلك في النمو الاقتصادي والمتغيرات الاقتصادية الكلية على المدى الطويل. هذه التغيرات تحدث ببطء مع التطور الاقتصادي وعبور مراحل متدرجة من التنمية الاقتصادية، حيث تبدأ عدد من المتغيرات السكانية في التغير مع تغير في مستويات الدخل والظروف الصحية. فزيادة مستويات الدخل تؤدي إلى زيادة استهلاك الأفراد لمزيد من الغذاء الجيد، والحصول على خدمات صحية أفضل، وبالتالي تبدأ بعد ذلك معدلات الوفيات بالانخفاض بشكل ملحوظ. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة معدلات النمو السكاني بشكل مطرد، إلى أن تصل إلى مرحلة تتراجع معها معدلات الخصوبة وتتوقف معها معدلات النمو السكاني في الزيادة وهو ما يحدث غالبا في عدد من الدول المتقدمة. هذه التغيرات لها تبعات اقتصادية كبيرة تتطلب أخذها في الاعتبار عند وضع السياسات الاقتصادية لكيلا يرتب ذلك أعباء على الأجيال القادمة، ولكيلا يؤدي إلى التأثير في إمكانات النمو الاقتصادي في المستقبل.
اليابان مثال واضح على تأثير التحدي الديموغرافي وشيخوخة السكان في النمو الاقتصادي، حيث ما زالت اليابان تعاني تدنيا في معدلات النمو الاقتصادي خلال عقدين وأكثر من الزمن. لم تفلح الكثير من السياسات التحفيزية للاقتصاد في الخروج باليابان من دائرة النمو المنخفض بسبب أن الإصلاحات الاقتصادية التي تعمل عليها الحكومات اليابانية المتعاقبة تركز فقط على الإصلاح على المدى الزمني القصير، ولم تتعامل مع المشكلة في أصلها نتيجة للقيود الاجتماعية والإرث الثقافي الذي يمثل عائقا سياسيا كبيرا. في المقابل لم تعان الولايات المتحدة قضية الشيخوخة بالدرجة نفسها التي تعانيها اليابان بسبب أن الولايات المتحدة أكثر انفتاحا على الهجرة ما يساهم دائما في تعزيز قوة العمل بعدد كاف يستطيع المساهمة في دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي والتقاعد التي تمول الإنفاق على مصاريف الصحة والتقاعد للمتقاعدين. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة لا تواجه هي الأخرى تحديا في القدرة على الاستمرار في تمويل برامج التقاعد لديها، لكنها أقل حدة ما دامت قادرة على توليد النمو الاقتصادي الذي يساهم في زيادة الموارد المالية التي يمكن أن تغطي جزءا كبيرا من هذه العجوزات.
المملكة مرت خلال السنوات الماضية بمعدلات نمو سكانية عالية جدا ما أدى إلى زيادة مطردة في أعداد السكان. وتتميز التركيبة السكانية في المملكة بنسبة عالية للسكان في الفئة العمرية بين 15 – 59 عاما، لكن مع مرور الوقت، وانخفاض معدلات الخصوبة، فإنه يتوقع أن تبدأ هذه الفئة العمرية من السكان في التراجع، ومن ثم سيزداد عدد السكان في الفئة العمرية من 60 عاما فأكثر. وهذا سيترتب عليه نتائج اقتصادية كثيرة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند التخطيط الاقتصادي طويل المدى. حيث إن زيادة الفئة العمرية من 60 عاما فأكثر سيتطلب زيادة المصروفات المخصصة للصحة والتقاعد، وسيترتب عبء هذه التكاليف على الأجيال القادمة، حيث سترتفع نسبة الإعالة نتيجة انخفاض عدد الداخلين في العمل مقارنة بزيادة عدد المتقاعدين. هذا التحدي الاقتصادي القادم لا محالة يتطلب من الآن أن يؤخذ في الاعتبار عند وضع السياسات الاقتصادية سواء تلك التي تستهدف التعامل مع الأجل القصير والمتوسط كالسياسات المالية والنقدية، أو تلك التي تستهدف السياسات على المدى الطويل والتي تستهدف استدامة النمو والتنمية الاقتصادية.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال