معلومتان مهمتان ظهرتا في وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية، الأولى هي إقرار وزارة العمل بأن المواطن يعاني منافسة غير عادلة من العمالة الأجنبية، المعلومة الثانية هي ارتفاع التحويلات إلى ما يقارب 160 مليار ريال، وهي قريبة من مستوى 20 في المائة من الميزانية العامة للدولة. فهاتان المعلومتان مترابطتان جدا، فالعمال الأجانب يستفيدون من اختلال سوق العمل، ولعل اعتراف الوزارة بحقيقة المشكلة هو الذي سيفرض حلها في نهاية المطاف، ومن المفترض لحل أي مشكلة أن تمضي نصف الوقت المخصص أمامك في فهمها بدقة. لقد كتبت طوال سنوات عدة عن مشكلة سوق العمل ودور الوزارة، وأشرت إلى أن دور الوزارة هو تنظيم السوق وليس فرض حلول عليها، والفرق واضح جدا. فرض الحلول بقوة النظام على مشكلة اقتصادية لن يقدم حلا مستداما، بل يوجد مشكلة في مكان ما قد لا نعلمها الآن، كما أن فرض السعودة بقوة النظام يخرج وزارة العمل من موقعها كمنظم للسوق إلى موجه له، بل يجعلها تتحول إلى وزارة للعمال بدلا عن وزارة للعمل، والفرق بينهما شاسع. وفي ظل “وزارة للعمل” فإن عليها أن تدافع عن السوق ونظام السوق وعدالتها ودقة ميزان العرض والطلب، لا أن تدافع عن العمال. وللحقيقة فإن وزير العمل الدكتور مفرج الحقباني يتميز عن كل من سبقه في هذه الوزارة بأنه يرى الصورة الشاملة للموقف، ولعل أهم ميزة للوزير أنه جاء من قلب الوزارة ولم يأتِ من خارجها. فهو يعرف صلب المشكلة ويعرف أبعادها، وقد بذل جهدا كبيرا في توصيفها من قبل، لهذا جاء إقرار الوزارة أمام مجلس الشورى بأن السوق تعاني عدم عدالة المنافسة من قبل العامل الأجنبي كخطوة صحيحة في طريق سيكون طويلا بلا شك، فتصحيح المنافسة في السوق سيتطلب كثيرا من العمل، وسن كثير من التشريعات الجديدة.
الاقتصاد سلوك مجتمع، والمجتمعات قادرة دائما على خلق عديد من الأسواق التي تستفيد من المشكلات الاقتصادية الراهنة، فمثلا عندما حاولنا فرض السعودي بقوة نظام نطاقات كان المجتمع قادرا على ابتكار حل اقتصادي من خلال السعودة الوهمية، وإن كنت أتحفظ على مصطلح وهمية، ذلك أنها سعودة حقيقية لكنها بشروط عمل مختلفة، لقد استطاع أرباب العمل والعمال الاتفاق على عقد يحقق مصالح كل الأطراف حتى الدولة، ومع ذلك فإن الجميع لم يكن راضيا عن هذه الحلول التي ابتكرها الاقتصاد السعودي. وأستغرب عدم الرضى هذا، فإذا كنا نريد سعودة فهذه هي السعودة، لكن إذا كنا نريد تصحيح سوق العمل فعلينا العودة إلى تشخيص مشكلة السوق بدقة، وفي نظري فهي لم تكن في عدم الرغبة في توظيف السعودي، بل في السوق التي تضج بعرض أجنبي متنوع ومنافسة حادة. فهذه السوق، أي سوق العمل، تعاني عرضا كبيرا جدا مع اختلاف جوهري في سعر وحدة العمل بين السعودي والأجنبي، وإلى حدود قياسية، الأمر الذي ولد تحديات كبيرة. وإذا كان بند الرواتب والأجور من أكثر البنود إرهاقا لأي مؤسسة، فإنه وللبقاء في المنافسة ـــ فقط ـــ تعد القدرة على خفض قيمة هذا البند ميزة يطمح إليها الجميع. ولو أن صاحب هذا المقال يعمل في مؤسسة قطاع خاص لسعى كما يسعى الجميع نحو العمالة الأجنبية منخفضة الأجر، وليس هناك اتهام بعدم الوطنية، بل الفكر الاقتصادي يفرض سلوكا اقتصاديا صرفا، لذلك، فإن السؤال الذي يجب أن نسعى إلى الإجابة عنه هو: كيف استطاعت دول العالم أن تتعامل مع قضية زيادة المعروض العالمي من العمالة؟
وباختصار فإن الدول التي لديها منظومة اجتماعية واقتصادية وقانونية وقضائية كاملة لم تواجه مشكلة التوطين التي نواجه “وإن كانت تواجه مشكلات أخرى في نقل المصانع وحركة رأس المال باتجاه شرق آسيا”. وفي هذا الاتجاه كانت المملكة قبل سنوات قد وقعت مع منظمة العمل الدولية على اتفاقية المساواة وعدم التمييز بين العمال سواء الوافد أو السعودي، ومن ذلك المساواة في الأجر والمساواة في ساعات العمل. لكن مع ذلك لم نستطع تطبيق الاتفاقية على أرض الواقع طالما ليس لدينا تلك المنظومة التي تحمي العامل السعودي. فالوضع الراهن في سوق العمل هو أن السوق ــــ كما أشرت دائما ـــ تنقسم إلى سوقين رئيستين، سوق موجهة وهي سوق العمالة السعودية، وسوق حرة وهي سوق العمالة الأجنبية، وفي الواقع ولأن السوق تفرض العدالة التي تعكسها قوى العرض والطلب، فإن سوق العمل تجاهلت السوق النظامية الموجهة وأخرجتها من المنافسة، حيث ضربت حولها طوق عقود السعودة الوهمية، وذلك لحماية التنافسية في السوق الحقيقية، وبهذا بقيت سوق العمل تعاني قوة عرض الأجنبي، وانتهينا إلى ما بدأنا منه، وزادت تحويلات العمالة الأجنبية.
إذاً ستبقى سوق العمل سوقا تنافسية تدافع عن نفسها، ولخلخلة الوضع الراهن تجب العودة إلى ميزان العرض والطلب وتعديله. ويبقى السؤال عن المنافسة غير العادلة في سوق العمل، وبعبارة أخرى: لماذا يرضى العامل الأجنبي براتب أقل بكثير من نظيره السعودي؟ ولماذا لا نستطيع فرض مساواة للأجور في السوق بغض النظر عن الجنسية كما فعلت دول العالم الأخرى؟ إن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدا، ومع ذلك فإنها مفتاح الحل لكل مشكلة سوق العمل في المملكة. وفي نظري أن العامل الأجنبي يقبل بمستويات أجور متدنية جدا لأنه لا يعيش في المملكة كما يعيش المواطن السعودي، وإذا أقررنا مساواة في الأجور فكل ما سنحصل عليه هو زيادة ارتفاع التحويلات الأجنبية مع بقاء الوضع على ما هو عليه. ما نريده ليس فرض مستويات أجور معينة للعامل الأجنبي، لكن فرض مستويات معيشة معينة عليه، تتلاءم مع أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية السائدة. هذا سيجبر العمال على تصحيح الأجور، وبالتالي المنافسة، ويحد كذلك من التحويلات الأجنبية.
نقلا عن الاقتصادية