الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
للفرد حق في حماية خصوصية بياناته الشخصية المتعلقة بهويته وجسده وصحته ومسكنه وغير ذلك. والاطلاع على شيء منها أو البوح بها يعدّ انتهاكاً لخصوصيته. ذلك أن البيانات وإن لم يكن بعضها سرية إلا أنها تبقى مملوكة لصاحبها، والاطلاع عليها اطلاع على ملكه وانتهاك لخصوصيته. من هنا كانت البيانات الشخصية محترمة باحترام مالكها وهو الإنسان. ويبدو أن من أعظم البيانات خصوصيةً ما يتعلق بالبيانات الصحية، لذا جاء التأكيد عليها في مواثيق الأخلاق الطبية والمهنية في الوسط الطبي.
خاصة إذا كان الإنسان مريضاً فإن خصوصيته تزداد حساسية ويحظر هنا إفشاء شيء منها. والمنظم السعودي في نظام البيانات الشخصية (الذي صدر مؤخراً) صنّف البيانات الصحية على أنها من ضمن البيانات الحساسة ورتب على انتهاكها عقوبات. ومن جملة أسباب ذلك أن المريض قد يكون غير قادر على حماية نفسه بشكل كاف بسبب فقدان الوعي أو عدم القدرة على الحركة، لذا فإن التأكيد على خصوصية بياناته الطبية أمر مهم، وتجاهل حقه في الخصوصية انتهاك للقانون، ونتيجة لذلك فإن مؤسسات الرعاية الصحية والمهنيين مسؤولون عن انتهاك الخصوصية فيما لو أفشوا معلومات من السجل الطبي للمريض إلى أُناس أو جهات غير مرخص لهم. فالمعلومات الموجودة في السجل الطبي للمريض تبقى سرية دائماً ويحظر إفشاؤها دون إذن المريض، باستثناء حالات يكون إفشاؤها واجب قانوني، وسنذكر أمثلة على ذلك في آخر المقال.
إذ ترتكز السرية هنا على ثلاثة مبادئ هي الاستقلالية واحترام الغير والثقة. فالاستقلالية تعني أن البيانات والجسد حق للمريض يتملكه دون غيره ولا يجوز كشفها أو كشف العورة دون رضى. ولأن الإنسان محترم فبياناته تأتي في هذا السياق. وأما الثقة فهي ضرورية إذ بعدمها قد يرفض المريض الطبيب. فالثقة معيار يحترمه القانون لأن المريض الذي لا يشعر بالثقة في طبيبه لا يمكنه البوح له عن أسباب ألمه، وبالتالي يصعب على الطبيب التشخيص والعلاج.
إحدى المريضات في مستشفى في الولايات المتحدة الأمريكية مُنحت مبلغ 15000 دولار في دعوى قضائية ضد طبيبها (VERNEUIL v. POIRIER) وضد المستشفى بتهمة التعدي على الخصوصية حيث ادعت بأنها حين كانت مريضة وفي غرفة الإنعاش بعد الجراحة، رفع مشرفها ردائها في محاولة لرؤية شق بطنها .ورأت محكمة الاستئناف أن الأدلة تثبت وجود انتهاك الخصوصية. ولأن سلوك المشرف حدث أثناء وقت ومكان عمله، كان المستشفى مسؤولاً أيضاً عن الأضرار. ( تنص المبادئ أنه عند الكشف على المريض لا يتم الكشف إلا عن الجزء المراد كشفه فقط لا غير، وذلك بعد التأكد من خصوصية المريض بإنزال الستار الذي يحجب باقي المرضى أو حتى العاملين الذين لا يشملهم الكشف الطبي)
إن علاقة الطبيب بالمريض هي حجر الزاوية في الممارسات الطبية، وإعلان جنيف للجمعية العالمية للطب يطلب من الطبيب أن يعمل بالالتزام الذي يقول: سأضع صحة مريضي فوق كل اعتبار. وهو – في الوقت ذاته – يخالف المفهوم التقليدي الذي فيه استسلام المريض لقرارات الطبيب حيث أُلغي لتعارضه مع الأخلاقيات المهنية. فالطبيب لا يجوز له الكشف عن أي جزء من جسد مريضه دون حاجة، بل وأعظم من ذلك لا يجوز له الإفصاح عن أي معلومات يتحصل عليها إما في جسد المريض أو بياناته، بل تظل طي الكتمان حتى بعد الوفاة. أذكر في هذا السياق أحد الزملاء (صيدلي) أُعير إلى جهة ما للإشراف على صرف أدوية بعض المسؤولين. وبعد انتهاء التكليف بسنتين سألته عن نوع الأدوية، فرفض الكشف عن ذلك رفضاً قاطعاً. فأكبرتُ ذلك منه، وكان درساً عملياً في رؤية التزام أخلاقي عال. ورغم ما قيل، فإن سرية بيانات المريض يجوز الإفصاح عنها في حالات منها:
الحالة الأولى: لأبناء ووالدي المتوفي حيث يجوز لهم الإطلاع على سبب الوفاة ويجوز للطبيب الإفصاح عن ذلك إذا كان مفيداً لهم ولوقايتهم أو أخذ احتياط ما أو نحوه.
الحالة الثانية: الطاقم الطبي من الأطباء والممرضين ونحوهم فحاجتهم للتعامل مع المريض تتطلب الاطلاع على ملفه، بيدَ أن ذلك مقيّد بقدر الحاجة، فلا يصح للممرض أو الطبيب أن يطلب ملف أي مريض ليتصفحه هكذا دون حاجة. فإذا كان العلاج وصرف الدواء يتطلب الاطلاع على سجل المريض الطبي فعليه أن يلتزم بقدر الحاجة وعلى الطبيب أن لا يمكن آخرين في قراءة كل شيء.
الحالة الثالثة: في حال الخوف على الأطفال، وبخاصة إذا كانوا في حضانة صاحب البيانات أو يُحتمل قدومهم إليه. فإن على الطبيب أن يفصح لمن يهمه الأمر أو صاحب الشأن عن ذلك حمايةً للأطفال.
الحالة الرابعة: حال وجود أطراف أخرى قد تتضرر بكتمان المعلومة الصحية للمريض مثل أحد الزوجين في حال كان أحدهما مصاباً بفيروس معد. فهنا يجب على الطبيب إبلاغ أحدهما عن مرض الآخر حتى لا ينتقل المرض إليه، وإلا عُد مسؤولاً عن ذلك ونالته طائلة المحاسبة. وهذا الإبلاغ واجب لأن وقوع الخطر لا يمكن تداركه أو تعقبه أو تخفيفه.
لذا على الأطباء إعمال النظر النقدي على الواجب المهني عند الرغبة في إفشاء بيانات متعلقه بمريض. فاقتناع الطبيب بأهمية الافشاء مهم ولا يمكنه الوصول إلى ذلك إلا بإعمال النظر في مصلحة المريض ومصلحة الطرف الآخر ووضعهما في ميزان يمكن معه اتخاذ موقف مناسب للحالة. وفي حال تردده فعليه الاستعانة بخبير ومناقشة ذلك معه. وعليه قبل ذلك أن يُحضّر جواباً لسؤالين هما: ما المعلومات التي يجب عليه الافصاح عنها؟ ولمن؟ فإذا استطاع الإجابة فقد قطع مرحلة إلى اقتناعه.
لكن ماذا عن إبلاغ المريض ذاته عن معلومات حساسة من شأنها أن تؤثر على حالته البدنية أو النفسية أو العاطفية، بل قد تؤدي إلى يأسه من الحياة أو رغبته في فراقها. رغم أن هذا يخضع لتقدير الطبيب واستخدامه لامتيازه المهني إلا أنه قد يفتح باباً لأمور خطيرة. لذا وجب على الأطباء عدم استخدامها إلا في حالات خاصة جداً. والقاعدة تقول: إن على المريض مجابهة الحياة بحلوها ومرّها. ويبقى للطبيب حق الاحتفاظ بالمعلومات الخاصة وله الصمت في حالات يرى أن ذلك أفضل. ويرى فريق آخر بأن إلزام الطبيب بعدم إبلاغ المريض عن حالته الحرجة لا ينطبق إلا في حال بلوغه الطور النهائي من المرض، لأن البوح باقتراب أجله – والحالة هذه – قد تجعله يعيش حالة يائسة من الحياة. بل قد يتدخل بعض أفراد العائلة بطلب الطبيب عدم البوح عن ذلك لمريضهم.
ختاماً يتضح أن على الطبيب – في أي حال كان فيها المرض والمريض – إدراك الجوانب الشخصية والاجتماعية والنفسية والنظامية عند الإطلاع على جسد المريض أو عند الرغبة في الإفصاح عن بيانات شخصية للمريض سواء كان للمريض نفسه أو أهله أو أي طرف آخر.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال