3666 144 055
[email protected]
يتركز التطرف أو الغلو تاريخيا عادة في أمور الدين. وأسبابه سوء ظن متغلغل تجاه الآخرين، مخلوط بسوء فهم وعجلة وانحياز في النظر في الأدلة، وضعف أو فقر في فهم وتقدير المصالح والمضار على المدى البعيد خاصة. من يدرس حركات وكتابات متطرفة في تاريخنا عبر مئات السنين ستظهر له تلك الأسباب والخصال بوضوح.
توسعت آفة التطرف. فقراءة وسماع مناقشات الناس في وسائل التواصل الاجتماعي وفي المجالس على المقاعد الوثيرة حول موضوعات اقتصادية كرسوم الأراضي وغير الأراضي وتأثير الرسوم والضرائب وغيرها من موضوعات الساعة الساخنة، تعطي قناعة أن التطرف أصبح سمة غالبة في المناقشات الاقتصادية وغير الاقتصادية. كيف؟ عندما يجتمع شخصان مختلفان في الرؤى والآراء فالغالب أن تجد كل واحد منهما متعصبا في النقاش، ليس هدفه الموضوعية والبحث عن الحقيقة قدر الإمكان. تجده يستشهد بما يقوي رأيه وفي الوقت نفسه تجده يتجاهل الأدلة والرؤى التي لا تتفق مع رأيه وكأنها لا وجود لها، وإن قالها فالغالب أن يقولها على غير وجهها. الغالب أن يطرحها طرحا مشوها كأن يزيد فيها أو ينقص أو يدلس في عرض الآراء المخالفة له أو يختار في تفسيرها ما يروق لهواه ويتجاهل ما طرح من تفسيرات أخرى أو يعرضها عرضا مشوها.
ضعف البضاعة العلمية سمة مشتركة عند متطرفي الاقتصاد، وغالبا يقدمون أنفسهم للقراء والسامعين على أنهم اقتصاديون. المتطرف يعتقد أولا بما يتفق مع هواه، ثم يبحث عن دليل لاعتقاده، وليس العكس. قلما تجد متطرفا لديه بضاعة عميقة في طرائق البحث الموضوعي، بضاعة عميقة في معرفة وتطبيق أدوات التحليل الاقتصادي والنظرية الاقتصادية بشقيها الجزئي والكلي. وللفائدة يستخدم علم الاقتصاد عادة تعابير حيادية، مثل مستهلكين ومنتجين، وعرض وطلب وسعر توازن ونحو ذلك.
من المهم جدا أن أؤكد أن وجود مستوى عال من العلم والفهم العلمي الاقتصادي لا يقضي على الخلاف وتباين وجهات النظر ولكنه يخفف إلى حد كبير من التعصب والتطرف، لأنه يمنح صاحبه أفقا أوسع لفهم آراء مخالفة لمتخصصين أقوياء علميا وعمليا. ويمكن فهم بعض ذلك من عبارة منسوبة للإمام الشافعي رحمه الله “ما ناظرت عالما إلا غلبته, وما ناظرني جاهلا إلا غلبني”.
من جهة أخرى، تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي كتويتر بآراء ومناقشات ترى فيها جهلا مركبا بنبرة متعصبة في الرأي. وأحيانا يمزجهما صاحبهما بغرور وسوء أدب في الحوار. والجهل المركب لمن لا يعرف من يفتي بجهل، أي أنه جاهل ولا يدري أنه جاهل.
سأذكر مثالين تطبيقا لما سبق من كلام.
في مقال منشور لي في 25 يوليو الماضي ذكرت ما معناه أن ارتفاع نسبة سعر الأرض إلى سعر المسكن موجود في مدن كبيرة في دول كثيرة، ويمكن أن نقول إنها مشكلة عالمية واستشهدت بنسب في مدن أمريكية رئيسة، مع ذكر المصدر. وأن بإمكان الشخص التأكد بنفسه بالبحث عبر محرك بحث. ينتقد البعض هذا الكلام على أرضية الاختلاف في بنية اقتصاد ومصادر دخل مدننا الكبرى ومدن أمريكا الكبرى مثلا. هذا النقد عليه ملحوظات.
نعم أوافق على أنه لا يصلح أخذ رقم بعينه أنتجته دراسة على مدينة وتعميمه على مدينة أخرى حتى لو كانت في الدولة نفسها لاختلاف الظروف غالبا. ولكن هذا شيء والاستفادة من مخرجات الدراسة من حيث البواعث والقواعد العامة شيء آخر. لماذا؟ لأن كل سوق سواء كانت عقارية أو غيرها تحكمها قوانين ومبادئ العرض والطلب وأساسها أن البشر محبون للدنيا وأن الموارد المتاحة لها حدود. هذه المبادئ والأسس تنطبق على سوق أي سلعة في أي اقتصاد، وتنطبق على الأفراد في أي مجتمع بغض النظر عن طبيعته وطبيعة اقتصاده. والخلاف بين الأفراد والمجتمعات والمدن والدول إنما هو في التفاصيل (المشكلة أو الشيطان يكمن في التفاصيل) أي قدر التأثر وليس في أصل التأثر أي الاتجاه Trend.
مثال آخر. الاستشهاد بما يسمى نسبة البطالة في بلادنا ومقارنتها بالنسبة في دول أخرى أراه غير مفيد بل مضلل. لكن هذا الكلام لا يكفي. لابد أن أشرح لماذا هي كذلك. السبب أننا نعتمد اعتمادا كبيرا على استيراد اليد العاملة، بينما الدول الأخرى (خلاف الخليجية) لا تستورد يدا عاملة إلا بنسبة ضئيلة من قواها العاملة. لكن القول إن تلك المقارنة غير مفيدة لا يعني أن التحليل الاقتصادي الجزئي للعمل (كما يدرس في كتب الاقتصاد التي درسناها في الغرب الصناعي) لا يصلح للتطبيق على بلادنا.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734