الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار اقتصادي
AbdullahHabter@
حينما تلجأ الحكومات لتبني سياسات مالية أو نقدية فإن تلك السياسات تخضع لاعتبارات مهمة، أهمها الهيكل الاقتصادي للدولة، فالدول الصناعية في الغالب تلجأ لمثل هذه السياسات لمعالجة بعض الاختلالات في الاقتصاد، والمتعلقة بآلية السوق العرض والطلب، وتفاعلهما مع عناصر ومخرجات الإنتاج الرئيسة، فمثلا قد تتخذ الحكومة سياسة توسعية نتيجة لضعف الطلب في الاقتصاد، أو لانخفاض التضخم كما هو حاصل في بعض الدول الصناعية المتقدمة وأقرب مثال على ذلك سياسة التيسير الكمي التي تبناها البنك المركزي الأمريكي، والبنك الأوروبي بهدف تحفيز الاقتصاد، وخفض معدلات البطالة، وسياسة التحفيز الذي أقدمها عليها البنك المركزي الياباني حينما تبنى الفائدة السلبية بغية زيادة الإقراض ورفع التضخم.
في المقابل يتم تبني سياسة انكماشية نتيجة لعجز العرض الكلي في الاقتصاد عن مجاراة الطلب، مما قد يؤدي إلى التضخم، إلا أن تلك السياسات قد تكون مقيدة، أو عديمة الجدوى، أو تؤدي إلى نتائج عكسية في الاقتصاديات الريعية والتي تشكل الموارد الطبيعية نسبة كبيرة من إيراداتها، وحجم إنفاقها، كما هو الحال مع الدول التي تعتمد على النفط والذي يمثل نسبة كبيرة من إيراداتها وميزانياتها السنوية، فمع ارتفاع إيرادات النفط تتخذ تلك الدول سياسات توسعية من خلال زيادة الإنفاق الحكومي، وتنشيط الاقتصاد. في المقابل ايضا تتبنى سياسات انكماشية في حالة انخفاض أسعاره، والذي قد يؤدي لانخفاض كبيرا في إيراداتها،
وربما يُفضي لعجز كبير في ميزانيتها، ومن دون شك أن تلك السياسات الانكماشية لها انعكاساتها السلبية في الاقتصاد أشد من مثيلاتها في الدول الصناعية والسبب أن الدول الصناعية تتمتع بمزايا في حالة تطبيق سياساتها المالية أو النقدية كاختيار وقت وحجم ومدة تطبيق السياسة إضافة لتعدد الخيارات المتاحة لديها، وهذا لا تتوفر للاقتصاديات الريعية ، والسبب في أنها شبه مقيدة، وتلجأ في الغالب إلى خيار واحد وهو خفض الإنفاق الحكومي الذي يعتبر المحرك الرئيسي في الاقتصاد، ويستأثر بنسبة كبيرة جدا من نسبة الوظائف مقارنة بالنسبة في القطاع الخاص.
حينما ارتفعت أسعار النفط في السنوات الماضية بدأت بوادر التضخم المستورد تظهر علاماتها في الاقتصاد السعودي، نتيجة لارتفاع أسعار السلع المستوردة استجابة لارتفاع أسعار النفط، إذ بلغ سعر البرميل مستويات قياسية قاربت 150 دولار للبرميل، وهذا التضخم المستورد سبقه تضخم أشد منه تمثل في ارتفاع أسعار العقار، والذي كانت بداياته بعد انهيار سوق الأسهم عام 2006، ونتيجة لارتفاع معدلات التضخم زادت الدولة من حجم إنفاقها إذ قامت بزيادة رواتب الموظفين، إضافة لدعم بعض السلع والخدمات، أدى ذلك إلى موجة تضخمية أخرى تمثلت في ارتفاع بعض السلع الاستهلاكية، وارتفاع آخر في العقارات وتكلفة أجار الوحدات السكنية.
ومن دون شك أن زيادة الأجور والدعم يستنفذ من خزينة الدولة مبالغ ضخمة، ثم حدث أن انهارت أسعار النفط وانعكس ذلك سلبا على الإيرادات، وظهرت بوادره في سياسة الانكماش التي انتهجتها المملكة من خلال خفض الإنفاق وإلغاء بعض المزايا المالية أو خفض أو أيقاف بعض البدلات واللجوء إلى الاقتراض من الخارج، وهنا نتساءل هل كنا بحاجة فعلا إلى زيادة الأجور؟ أم كنا بحاجة إلى سياسات أكثر ضبطا؟
تبدأ الإجابة على هذه التساؤل بالغ الأهمية بالمرور على بعض الأحداث التي حدثت في الفترات الماضية، وكيف أنها كانت سببا فيما نعانيه ويعانيه اقتصادنا حاليا، في عام 2003 مع بداية نشاط سوق الأسهم ارتفع عرض النقود في 2004 بنسبة 18% مقارنة ب 2003، وكذلك وارتفع عرض النقود في عام 2007 مقارنة بالعام الذي انهار فيه سوق الأسهم عام 2006 بنسبة 19% ، وباعتبار أن عام 2000 سنة أساس نجد أن عرض النقود في 2006 تضاعف مرة ونصف عن ما كانت عليه في ذلك العام، كما أن عرض النقود في 2015 تضاعف أربع مرات عن العام 2006.
يُدرك الاقتصاديون حجم الضرر الذي يمثله عرض النقود في الاقتصاد والذي يعني سهولة وتوسع في الإقراض، والذي يؤدي إلى ارتفاع الطلب على السلع والخدمات، وهذا قد يؤدي إلى مشاكل تضخمية، ورأينا ذلك في سوقين مختلفين إحداهما سوق الأسهم إذا مع سهولة الحصول على الإقراض وتوسع البنوك في ذلك أدى إلى دخول سيولة ضخمة للسوق مما نتج عنه تضخم هائل في أسعار أسهم الشركات أدى في النهاية إلى الانهيار، وكذلك الحال في سوق العقار، فمع انهيار الأسهم والاستمرار في الإقراض وسهولة الحصول عليها إذ بلغ عرض النقود في 2011 ثلاثة أضعاف ما هي عليه في عام 2000، وهذا أدى لتضخم أسعار العقار، إذ أن أسعاره الآن تزيد عن ما هي عليه قبل 2006 بما يقارب 80%.
وبالرجوع إلى بيانات الهيئة العامة للإحصاء ومقارنة متوسط دخل الأسرة الشهري بأسعار العقار نجد أن متوسط دخل الأسر الشهري في 2007 تقريبا 14000 ريال، في حين أن أسعار العقار في تلك الفترة تقارب 6 أضعاف دخل الأسرة السنوي، بينما في عام 2013 كان متوسط دخل الأسرة 13600 ريال في حين كان متوسط العقار يبلغ ما يقارب 11 ضعف دخل الأسرة السنوي، وهذا يقودنا إلى استنتاج انخفاض دخل الأسر مما يعني انخفاض القدرة الشرائية والقوة الشرائية ، قابله تضخم أسعار العقار بصورة كبيرة، وهذا يقودنا إلى استنتاج مهم إلى أحد أسباب تضخم العقار وهو السياسة النقدية التوسعية التي تبنتها مؤسسة النقد.
كان ينبغي أن تنتهج مؤسسة النقد سياسة نقدية أكثر انضباطا، حتى في ظل توفر السيولة، لأن ذلك سيحد من القدرة على الإنفاق، وبالتالي استقرار الأسعار، وأقول هذا وأنا أدرك أن بعض الاقتصاديين سيخطئني ويلومني في ذلك، ويحتج بعضهم بإن تبني سياسة نقدية متشددة يضر بالاقتصاد ويؤدي إلى ضعف النمو، وهنا أتساءل أي نمو نطمح إليه، زيادة في الاستهلاك ومزيد من التضخم، أم نمو حقيقي يتمثل في توجيه السيولة للقطاعات المنتجة التي تنتج سلعا وتخلق وظائف في الاقتصاد.
لا يخفى ما تعانيه السوق السعودي من ضعف المنافسة في السوق السعودي، إذ يغلب على بعض قطاعاته الاحتكار، والبعض الآخر احتكار القلة، وهذه الأنواع من الأسواق لا تصب في مصلحة الوطن والمواطن، إذ تفقد السوق توازنه واستقراره، وتسهل على الشركات القيام بممارسات مثل التحكم في المعروض، والسعر، فعلى سبيل المثال قرار وقف استيراد السيارات التي يتجاوز عمرها 5 سنوات من الخارج بحجة أضرارها على المستخدم، في حين تطالعنا الصحف وإعلانات وزارة التجارة بعيوب في موديلات جديدة، هذا المنع كان سببا في زيادة هيمنة الوكالات على السوق وأدى لارتفاع الأسعار، جانبا آخر ما قام به تجار الأرز من الاتفاق فيما بينهم على رفع الأسعار، وقيام البعض الآخر بتثبيت وتحديد السعر، في المقابل نرى كيف استجابت أسعار الاسمنت لقرار وقف التصدير، إذا أدى ذلك لانخفاض الأسعار، وهذا يقودنا كيف أن بعض الممارسات تعطي صورة واضحة إلى الخلل الناتج عن هذا النوع من الأسواق، وفي النهاية لا يخفى من المستفيد الحقيقي من زيادة الأجور.
إن عدم الانسجام بين حركة الأسواق والسياسة التي ينتهجها البنك المركزي، إضافة لنوعية السوق تقود إلى مشاكل اقتصادية، وتزيد من تفاقم الأوضاع، ويتحمل كل من الحكومة والمواطن تبعات ذلك، فليس من الحكمة أن تغلي الأسواق ويزداد التوسع في الإقراض، فهذا أشبه بمن يصب الزيت فوق النار، وهنا نتساءل مرة أخرى، هل فعلا كنا في حاجة لزيادة الأجور أم اتباع سياسة نقدية أكثر انضباطا وقرارات لضبط الأسواق تخفف على الوطن والمواطن الآثار التي يمر بها اقتصادنا حاليا؟.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال