تحدَّثنا في المقال السابق “الرابط هنا” عن “الاستدامة” كمفهومٍ واسعٍ يَحمِلُ تغييراً عميقاً لحماية الاقتصاد والبيئة والمجتمع، وكيف أنَّ مرونة الاستدامة تَكمُنُ في كونِهَا أداة تقييمٍ للشركات، وليست قواعداً نظريةً جامدةً.
لكن في هذا المقال، سنُوضِّح كيف أنَّ الاستدامة قد تُصبِحُ موضوعاً لاستثمارٍ جماعيٍّ خاصٍّ، لا يُرَاعِي المستقبل الاقتصادي والبيئي والاجتماعي المُستَدَام فحسب، بل أيضاً يُصبِح هذا الاستثمار جزءاً من عملية الاستدامة.
ففي الواقع، صندوق الاستثمار هو عبارةٌ عن شركةِ مساهمةٍ بين عددٍ من المستثمرين بتقديم أموالِهِم إلى شركةٍ مُرَخَّصَةٍ بعمل الصندوق المُحتَرِف بالعمل الاستثماري؛ حيث يَحصَلُ كلُّ مساهمٍ على أوراقٍ ماليةٍ تُسمَّى بالوحدات الاستثمارية تُمثِّل مُسَاهَمَتَهُ في الصندوق، ويحصل على أرباحِهِ بناءً على هذه المساهمة، ويمكن تداول هذه الوحدات في السوق المالية.
وهكذا، يقوم الصندوق على فكرة تجميع أموال الناس ثم تشغيلها في أنشطةٍ مُتعدِّدةٍ، وتوزيع ما يَنتُجُ عن هذا التشغيل من أرباحٍ على المساهمين في الصندوق كلٌّ وفقاً لقيمة وحداتِهِ الاستثمارية التي تُشكِّلُ مساهَمَتَهُ في هذا الصندوق.
ومن أشهر أنشطة الاستثمار التي تتَّخِذُهَا الصناديق محلاًّ لترخيصها؛ هي الصناديق العقارية، وصناديق الأوراق المالية المتنوعة، وصناديق رأس مال المخاطر، وغيرها.
لكن صعود مصطلح الاستدامة أثارَ فكرة تحويل هذا المصطلح إلى محلٍّ مستقلٍّ للاستثمار الجماعي.
فعلى سبيل المثال، يمكن تأسيس صندوقٍ لتجميع الأموال للأغراض التالية:
- الاستثمار في البيئة: مثل تحلية المياه، وتوليد الطاقة الكهربائية من الألواح الشمسية، وتقديم خدمات التشجير والزراعة، وغيرها من الأنشطة التي تَخدِمُ الرؤية البيئية للدولة، وتَهدِفُ إلى حماية المستقبل البيئي فيها.
- الاستثمار في تطوير الاقتصاد: مثل تقديم خدمات التطوير الإداري في مجال حوكمة مشاريع الأعمال والدوائر الرسمية، وغيرها من الأنشطة الهادِفَةِ إلى تطوير العمل في المؤسَّسات الفاعلة بالاقتصاد، ليس على المستوى الآني فقط، بل المستقبلي أيضاً.
- الاستثمار في المجتمع: وهي من أكثر محاور الاستدامة تأثيراً في التنفيذ الفعلي للاستدامة؛ حيث إنَّها تتضمَّن خدمات التنمية البشرية، وزيادة جودة العمل الخدمي، والارتقاء بالخبرات النظرية والعملية للشباب؛ كلُّ ذلك حتى يتمَّ تخفيض نِسَبِ البطالة، ورَفعِ مستوى معيشة المواطنين بشكلٍ مُتدرِّجٍ في المستقبل.
بناءً عليه، نستطيع القول بأنَّ إتاحة المجال لتأسيس صناديق للاستثمار الجماعي في نشاطات الاستدامة سيؤدِّي إلى ما يلي:
- تحوُّل السعي نحو التنمية المُستَدَامة من الرقابة والتقييم، إلى المساهمة الإيجابية.
- تفعيل المساهمة الإيجابية نحو الاستدامة بطريق الاستثمار، وليس بطريق العمل الحكومي أو الخيري.
- مضاعفة العمل الاستثماري المُستَدَام من الشكل الفردي للاستثمار إلى الشكل الجماعي عبر تجميع الأموال.
لكن التساؤل الأهم:
ما هي الإجراءات المطلوب اتِّخاذُهَا الآن حتى يتمَّ التمهيد لنشاط الاستدامة في الدخول مجال الاستثمار الجماعي؟
في الواقع، يوجد عدد من الخطوات التنظيمية التي تُسهِّلُ وتُشجِّعُ على توجيه رأس المال الجماعي إلى نشاط الاستدامة، نقترح منها:
- إضافة صندوق الاستدامة إلى النشاطات الممكن الترخيص فيها من هيئة السوق المالية.
- تسهيل معايير التأسيس لصندوق الاستدامة بعد التأكُّد من أنَّ نوعية النشاط -المُزمَعِ تجميع الأموال للاستثمار فيه- يَهدِفُ إلى تحقيق غاية الاستدامة.
- السماح لصناديق الاستثمار القائمة أو الراغبة بالتأسيس بنشاطٍ عاديٍّ أن يتمَّ ترخيصُهَا بنشاطِ استدامةٍ فرعيٍّ له ما للنشاط الرئيسي من امتيازاتٍ وإعفاءاتٍ.
- توفير معاييرٍ مُيَسَّرَةٍ للرقابة والحوكمة على صناديق الاستدامة.
- إنشاء معاييرٍ رقابيةٍ مُتخصَّصةٍ بهذه الصناديق للتأكُّد من التزامِهَا بميثاق الصندوق وأهدافه.
- تقديم إعفاءاتٍ ضريبيةٍ خاصَّةٍ بصناديق الاستدامة بحيث تتم مراعاة الخدمة التنموية التي يقدمها الصندوق للمجتمع.
- إسقاط محاور الاستدامة القابلة لأَنْ تكون محلاًّ لصندوق استثماري، على الرؤى التنموية الاستراتيجية للدولة.
- تحديد محاور الاستدامة الأكثر أهميةً للدولة في ظلِّ تأخُّر عملية التنمية فيها أو صعوبة إجرائِهَا أو مواجهة مصاعبٍ أو عقباتٍ معها، ثم تخصيص تسهيلاتٍ وإعفاءات ضريبيةٍ أكبر لهذه الفئة بالذات من النشاطات إذا رغب الصندوق بالترخيص للعمل فيها.
- إتاحة المجال لصناديق الاستدامة الأجنبية ذات السمعة العالمية الواسعة حتى تؤسِّس صناديقٍ تابعةٍ لها بما يَتَنَاسَبُ مع أنظمة الاستثمار الأجنبي من جهةٍ، ويُرَاعِي تقديم امتيازاتٍ لهذه الصناديق تتناسَب مع الخبرة التنموية التي يُقدِّمُهَا الصندوق من جهةٍ أخرى.
- إلزام الصناديق الأجنبية الراغبة بالترخيص لنشاط الاستدامة بتدريب عددٍ من الكفاءات الوطنية الشابَّة، وتقديم ندواتٍ ودوراتٍ في أعمال التنمية المُستَدَامة، على أن يكون تمويل هذه النشاطات التوعوية مُدرَجَاً في ميزانية صندوق الاستدامة الأجنبي هذا.
- تسهيل معايير إدراج وحدات صناديق الاستدامة في السوق المالية، والتشجيع على الاستثمار والتداول فيها بغرض توفير تمويلٍ إضافيٍّ لهذه الصناديق، ودعم قيمتها السوقية؛ الأمر الذي سينعكس إيجاباً على قوة المركز المالي للصندوق؛ ممَّا سيُساعِدُهُ على التوسُّع في أعمال التنمية المُستَدَامة.