الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في هذه الرواية سأقتصر – ما أمكن – على ذكر الحقائق والمعلومات والأرقام، مع تجنب إبداء الرأي.
في منتصف خمسينات القرن الميلادي الماضي أنشأ شاب اسمه محمد المعجل مؤسسة مقاولات، وسقاها من حماس ونزاهة وأمانة ذلك الجيل حتى ازدهرت ونمت واكتسبت مصداقية كبيرة لاسيما لدى شركة أرامكو بمعاييرها العالية في ذلك الزمن. وفي منتصف عام 2008م وافق محمد المعجل على إدراجها في السوق بغرض المحافظة على استمراريتها بعد بلوغه الشيخوخة.
وفي مرحلة التسعير العادل للطرح الأولي طبقت هيئة السوق المالية (للمرة الأولى على ما اعتقد) نظاماً عالمياً عادلاً وفعالاً لهذا الغرض، هو (بناء سجل الأوامر) وبمقتضاه يتم أولاً عرض كامل الأسهم التي ترغب الشركة في إدراجها (30 مليون سهم) على الشركات الاستثمارية المتخصصة الراغبة في الشراء، والتي عليها أن تُقدم عروضها مشتملة على الكمية المطلوبة والسعر بحيث لا يزيد عن الرقم الذي أقرته الهيئة بعد دراسة متعمقة وهو(70) ريالاً.
مُنحت الشركات الاستثمارية فترة أسبوعين لدراسة الشركة ونشرة الإصدار وتحليلها مالياً ومحاسبياً ثم تقديم عروضها في مظاريف مُغلقة لشراء الأسهم المطروحة (مُزايدة مُغلقة). وعند فتح المظاريف تبين أن عدد الأسهم المطلوبة بسعر (70) ريالاً أضعاف عدد الأسهم المطروحة مما يعني أن السهم كان مُقيماً بأقل من قيمته العادلة (في الولايات المتحدة يُسمح في هذه الحالة للبائع برفع السعر والكميات أو تخفيضها حسب الحال). كل ذلك كان برقابة وإشراف لصيق من هيئة السوق المالية. وبعد تخصيص الأسهم للشركات الاستثمارية بالنسبة والتناسب طلبت الهيئة منها التخلي عن (30%) من حصصها للجمهور ليُشاركوا الشركات في هذه الفرصة، ثم رُفعت النسبة إلى (70 %) نتيجة زيادة إقبال الجمهور على الاكتتاب.
تنفس الشيخ الصعداء وسلم قيادة الشركة لابنه وارتاح في منزله لاسيما وقد أنهكته الشيخوخة والمرض. حققت الشركة نتائج ممتازة في عام 2009 وقررت إدارتها توزيع منحة سهم لكل أربعة أسهم. ولكن الشركة واجهت ظروفاً طارئة مُستجدة ومُرهقة ظهرت نتائجها السلبية بدءً من عام 2011م، وهي:
ارتفاع حاد في الأسعار العالمية للمواد خلال العام 2008م مما انعكس أثره السلبي في العقود الطويلة التي دخلتها الشركة وفق الأسعار السابقة، ثم أزمة الرهون العقارية الأمريكية في أواخر عام 2008 التي تسببت في جمود النظام المالي العالمي ومن ثم جفاف التمويل.
إذا أضفنا إلى ذلك طبيعة نشاط المقاولات وظمؤه للسيولة لدفع رواتب العمال التي تُشكل النسبة العظمى من المصروفات، وتأخر عدد من عملاء الشركة في دفع مستحقاتها، أدركنا سببا لمأساة التي وقعت فيها شركة المعجل حيث دخلت في دوامة سلبية تُغذي نفسها بنفسها تتكون من نقص السيولة وجفاف التمويل وارتفاع العمولات البنكية. تقلصت أرباح الشركة ثم بدأت في الخسائر منذ عام 2011م.
وفي عام 2012م تم تعليق إدراجها من قبل هيئة السوق المالية مسببة خسائر فادحة لحوالي تسعين ألف مساهم، رغم وجود العديد من الشركات المُدرجة المماثلة لها في الخسائر لم يُطبق عليها هذا الإجراء الذي حرم مساهميها من التخارج، فمارس بعضهم ضغوطاً كبيرة على هيئة السوق مدفوعين بإشاعات عن تلاعب أصحاب الشركة وسط غياب إعلامي كامل منهم.
واستجابت الهيئة للضغوط فتعاقدت مع استشاري غير معروف موجود في دبي، لم يكن متخصصاً ولا مُرخصاً في المحاسبة أو القانون، للتفتيش على الشركة وفحص دفاترها والتحقيق مع موظفيها. وخرج بتقرير اعتمدت الهيئة عليه في صياغة لائحة الادعاء (حصلت “المعجل” أخيراً على حكم من محكمة دبي لتسليمها صورة من هذا التقرير).
الاستشاري قدم آلية جديدة لتسعير الأسهم لغرض الطرح الأولي يُمكن تسميتها بـآلية (التسعير المستقبلي)، وبمقتضاها يكون السعر العادل لأسهم الطرح الأولي هو السعر السوقي للسهم بعد خمس سنوات، فإن ارتفع السعر السوقي للسهم فالحمد لله، وإن انخفض السعر السوقي للسهم في المستقبل لأي سبب فعلى البائع أن يدفع الفرق إلى هيئة السوق المالية وأن يدخل السجن.
قبلت لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية هذه الدعوى وأدانت المدعى عليهم بثلاث مُخالفات فقط هي: 1- إثبات مساهمة نقدية عام 2006 بمبلغ (271) مليون من قبل محمد المعجل دون وجود مستندات مؤيدة. 2- تضخيم الأصول: (السفن بقيمة 40 مليون، والمعدات والسيارات، والسقالات المفقودة والتالفة بحوالي أربعة ملايين ريال) 3- التصريح غير الصحيح عن التكاليف الإجمالية المقدرة لعدد من المشاريع.
في حين قدم المدعى عليهم كشوفات بنكية تُظهر إيداعات نقدية لإثبات المساهمة النقدية عام 2006م رغم مضي مدة طويلة عليها، ودفعوا بعدم صحة تضخيم الأصول التي تم تقييمها بمعرفة وإشراف وزارة التجارة حسب نظام الشركات وصادقت عليه الجمعية التأسيسية للشركة التي تتكون من المؤسسين والمكتتبين وتوج ذلك بصدور قرار وزير التجارة بإعلان تأسيس الشركة بعد الاكتتاب وقبل الإدراج في السوق، وبالتالي أصبح التقييم وتلك الإجراءات مُحصنة بموجب المادة (64) من نظام الشركات.
ورغم ذلك اعتمد قرار الإدانة الصادر من اللجنة السعر الذي اقترحه الاستشاري على أنه السعر العادل للسهم عام 2008م ومن ثم ألزم القرار الشيخ محمد المعجل بدفع مليار وستمائة مليون ريال إلى حساب الهيئة، تمثل الفرق بين سعر الطرح الأولي لثلاثين مليون سهم، الذي سبق أن تحدد عبر المزايدة المُغلقة من الشركات الاستثمارية المتخصصة وأقرته الهيئة في عام 2008م، وقدره (70) ريالاً (لم يقم أي من الشركات الاستثمارية دعوى تضليل ضد المعجل حسب علمي)، وبين سعر (18) ريالاً الذي حددهالاستشاري على أنه السعر العادل للسهم عام 2008م في ضوء ما طرأ من تطورات خلال السنوات التالية.
الأمر في هذه القصة يتعلق بالبُعد القانوني: فقد اقتصر نظر اللجنة على المُخالفات المتعلقة بنشرة الإصدار، والتي خصص لها نظام السوق المالية المادة (55) ضمن فصل (العقوبات والأحكام الجزائية للمخالفات). تتضمن هذه المادة تفاصيل في ثلاث صفحات، تُحدد من يتحمل المسؤولية إذا ورد في النشرة بيانات غير صحيحة بشأن أمور جوهرية، ومن يستحق التعويض، وآلية احتساب التعويض.
المُشكلة في المادة (55) أن المادة (58) تنص على الآتي: “.. ولا يجوز بأي حال من الأحوال سماع هذه الدعوى (بموجب المادة 55) أمام اللجنة بعد مرور خمس سنوات من حدوث المُخالفة المُدعى بها”. والمنطق في ذلك هو حماية استقرار المراكز القانونية وافتراض أن هذه الفترة كافية لإدراك الوقائع (لاسيما وأن الهيئة هي من وافق على نشرة الإصدار وأقر سعر الطرح وهي المُشرفة على السوق وبالتالي لو أنها وجدت مُخالفة لما انتظرت أكثر من خمس سنوات لإقامة الدعوى).
للالتفاف على ذلك القيد الزمني المانع من سماع الدعوى تفتقت عقلية القانونيين عن مخرج يمكن وصفه بالهندسة القانونية (قياساً على الهندسة المالية)، وذلك باختيار مادة جنائية في نظام السوق المالية، هي المادة (49)، وتطبيقها على مُخالفات نشرة الإصدار عبر عملية هندسية مُبدعة. المادة (49) تتعلق بالتلاعب والتضليل في ورقة مالية أثناء التداول، ولا علاقة لها بما يجري داخل الشركة أو في نشرات الإصدار، حيث تنص على إدانة “أي شخص يقوم عمداً بعمل أو يشارك في عمل يوجد انطباعاً غير صحيح أو مضللاً بشأن السوق، أو الأسعار، أو قيمة أي ورقة مالية..”.
وأوردت المادة (وكذلك المادة الشارحة لها في لائحة سلوكيات السوق) أمثلة تفصيلية لقطع الشك باليقين تتعلق كلها بمخالفات التداول في ورقة مالية، مثل عقد صفقات لا تنطوي على انتقال حقيقي للورقة المالية، أو إدخال أوامر بيع أو شراء متتابعة على ورقة مالية.
ولكن جهة الادعاء استطاعت إخراج مُخالفات نشرة الإصدار من المادة (55) الخاصة بها، وإدخالها ضمن هذه المادة، وذلك بأن وضعت في بداية كل مُخالفة في لائحة الادعاء العبارة التالية (إيجاد انطباع مضلل بشأن قيمة الورقة المالية للشركة لحث الآخرين على الشراء أو البيع أو الاكتتاب) ثم يأتي بعدها مباشرة وصف المُخالفة، مثل (وذلك بتضخيم قيمة الأصول الثابتة في القوائم المالية للشركة، بالمخالفة للمادة التاسعة والأربعين…).
صحيح أن الشك يفسر لمصلحة المتهم وأن النصوص الجزائية لا يُقاس عليها ولا يُتوسع في تفسيرها ولكن هذا ليس تفسيراً قضائياً للنظام وإنما هو (هندسة قانونية) وهو مُنتج جديد لم يخطر على بال أحد من قبل.
نجحت هذه الهندسة القانونية، وتم ضرب ثلاثة عصافير بحجر: الالتفاف على المادة التي تمنع مُطلقاً سماع الدعوى بشأن تلك المُخالفات بعد مضي خمس سنوات من وقوعها، وحصول الهيئة على غنيمة تزيد على المليار وستمائة مليون ريال، ورمي الشيخ وابنه في السجن خمس سنوات. أما المساهمين الذين خسروا تحويشة العمر والذين تدين الهيئة لتحركاتهم في تسويغ حصولها على هذه الغنيمة فبإمكان أي منهم إقامة دعوى ضد المعجل. انتهت الرواية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال