الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لستُ ضد ثورة التكنولوجيا على الإطلاق، بل أنا من المدافعين عنها بيقين، ومن المستفيدين منها بامتياز.
وأعترف أن التكنولوجيا حرّرتنا من مكابد الجهل، وصرنا نفكر بالمشاريع التنموية، لنُحدِث انفجار معرفي كبير، لولاها لكان العالم في ظلمة معرفية أشدّ، ولكن هناك مسائل معاكسة، وربما لا نزال نتخبّط في جهلنا لما حولنا، وما ينتج عن هذا الجهل من أفكار نمطية ونزعات انعزالية وقوقعة على الذات.
ها نحن ندلل هذه التكنولوجيا ونسهر معها ونعتني بأوقاتنا برفقتها.
هل فكرنا بالمقابل بتكلفتها علينا كبشر؟ أي ما ترتّب عليها من تأثيرات وآليّات و”أخلاقيات” مشوّهة أصابت أرواحنا في نخاعها الشوكي، وأفقدت غالبية الناس في كلّ أنحاء الكرة الأرضية القدرة على الإمساك بالتوازنات الحياتية والوجودية. لقد جعلت من الانسان عبدًا يطيعها في كل الأوقات، ويطبق أوامرها، يحاورها، يلامسها، يتفق معها في كل استعراضعا وتطبيقاتها، الكثير منا صار حريصا غلى هاتفه أكثر مما هو حريص على نفسه وعائلته، يشدد بضرورة الانتباه له وعدم اللعب به، أليس هذا الأمر عبودية لكن من نوع آخر، صار الهاتف سيدًا لنا في تفاصيل حياتنا، هذه العبودية التكنولوجية جردتنا من إنسانيتنا،لم نعد أحرارًا، مسيرين لها بدرجة ثانية، فلو اختفت وسائل التواصل الاجتماعي لأصيب نصف العالم بجنون،وظهرت حالات الاكتئاب والهلوسة، نقول نحن في عصر الديمقراطية، والتكنولوجية قيدتنا بكل حواسنا.
لماذا برأيكم زادت الصراعات بين الشعوب والحروب؟ كلها بفعل هذه التقنيات التكنولوجية الحديثة، نحن اخترعناها وهي نفسها تعاقبنا، المشهد الراهن في هذا العصر الذي نعيشه، يمكن اختصاره برضوخنا شبه الكامل، وأكاد أقول اللاواعي، لمتطلبات الضغط التكنولوجي في العالم وموجباته وقوانينه وأدواته وثقافاته، وانسياقنا وراءه انسياقًا يجعلنا – شئنا أم أبينا – تابعين له وملحقين به، الأمر الذي يبعدنا إلى حدّ كبير عن حقيقة الإنسان، ويفقدنا الكثير من جوهر الحرية، ويحرمنا من الانتباه إلى الأساسي في حياتنا.
هل أقدم أمثلة تثبت هول ما نحن صرنا فيه من اغتراب وانفصام وإدمان؟
فليكتب أحدنا على ورقة تفاصيل ما يعيشه ويعايشه خلال أربع وعشرين ساعة من حياته، منذ أن يفتح عينيه، إلى أن يغمضهما. فماذا تكون النتيجة؟ أكاد أجزم أن وقت النوم هو الوحيد وقت الانعتاق، وأن غالبية الوقت الذي نعيشه في يومنا هو ذلك الواقع تحت مقص التكنولوجيا وأدواتها.
أهذا ما يريده المرء من حياته؟؟!
وهل حقًّا صارت فلسفة العيش الراهن رهينة هذه العبودية التقنية ومعاييرها وقيمها؟
أخشى ما أخشاه أن نكون قد خسرنا حرّيتنا، وأن تكون ينابيعنا الروحيّة قد نضبت وجفّت بعدما اجتاحتها صحارى وسائل التواصل الاجتماعي، المكتظة بالكراهية الرقمية، والاستعراض الفارغ، والوِحدة القاتلة، أي بكل شيء إلّا بالجوهر، والشعور، والمعنى.
أخشى ما أخشاه، أن نكون في طور فقدان أغلى ما لدينا: ألا وهي إنسانيتنا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال