الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سنحاول في الجزء الأوّل من هذا المقال التعريف بأساس المقال الذي يتتبّع دراسة اقتصاديّة حول ممارسات بدأت تظهر في الأسواق، وسُمِّيَت بظاهرة “قتل الشركات”. كما سنتحدّث عن أهمّيّة حماية الشركات المتوسّطة والناشئة تحت إطار قانون المنافسة، خصوصًا مع التحوّل الاقتصاديّ الرقمي، وما يجلبه من فوائد، مثل الذكاء الاصطناعيّ للشركات. ولكن، قد تكون هناك آثار سلبيّة تنافسيّة، مثل خيارات تفضيليّة للشركات المسيطرة، ورفع تكلفة الدخول على الشركات الناشئة والمتوسّطة… إلخ، كما سنرى. أمّا في الجزء الثاني، فسنتحدّث عن الصعوبات والتحدّيات التي يواجهها مراقبو أجهزة المنافسة أثناء التدخّل في الرفض أو الموافقة على صفقة ما مِنْ عَدمِه، وكيف أثّرت المفاهيم الاقتصاديّة على قوانين المنافسة، مع تقديم بعض التوصيات حول آليّة دراسة مثل هذه الظاهرة على مستوى السعوديّة.
بدايةً، لا أعتقد وجود شركات كبرى يعني بالأمر السيّئ إلى الحدّ لا تقوم هذه الشركات باستغلال سيطرتها، خاصّةً إن كانت منتجاتها تتأثّر شبكيًّا، أي تخضع لما يُعرَف بالمصطلح الاقتصاديّ Network-Effect. قبل توضيح مصطلح “الاستحواذات القاتلة”، دعونا نتخيّل للحظة أنّ هناك شركة دوائيّة هي الوحيدة في السوق التي تُصنّع عقار لعلاج مرض السكّريّ. سيكون لهذه الشركة القدرة على تحديد السعر، وربّما التحجُّج بحاجتها إلى الدعم تحت ذريعة الاستمرار في المزيد من الأبحاث، وتقديم خيارات أكثر للمرضى؛ كونها الوحيدة التي تقدّم هذا العلاج. وفي حال ضُخَّت استثمارات حكوميّة في هذا القطاع رغبةً من الحكومة في استمرار الأبحاث والابتكار، فلا شكّ ستكون هي المستفيد الأوّل من هذا التمويل. أضف إلى ذلك، ربّما تكون التكلفة التمويليّة أقلّ مقارنةً بالسوق. ونتيجة لهذا الوضع التنافسيّ المريح، لا تستغرب إن فقدت هذه الشركة الدوائيّة الرغبة في البحث والتطوير وصولًا إلى طرق أكثر ابتكارًا، وبتكلفة أقلّ لمرضى السكّريّ.
في هذا الجوّ الاستثماريّ، قد تكون الفرصة مواتية لدخول لاعبين جدد، والتنافس مع هذه الشركة الدوائيّة في تصنيع وتطوير علاج لمرضى السكّريّ. لنفترض أنّ شركة دوائيّة أخرى متوسّطة الحجم قد أعلنت النجاح بنسبة ٥٠% في ابتكار طريقة يُحتَمَل أن تقدّم خيارات أخرى لعلاج مرض السكريّ، أو تكلفة أقلّ. ذلك لا شكّ سيكون مفيدًا للمرضى، ولشركات التأمين، ولكن مخيفًا للشركة الدوائيّة العملاقة التي قد تفقد مركزها السوقيّ المسيطِر. ونتيجة لهذا الإعلان، قد يكون أمام هذه الشركة العملاقة أربعة خيارات، وهي:
لكن لو تحدّثنا بواقعيّة أكثر، فخيار تجاهل هذا الخطر -حتى وإن كان محتملًا- أمر غير مألوف، ويُعدّ مجازفةً في عالم الشركات، لا سيّما وأنّ الدراسات الاقتصاديّة تؤكّد نموّ الشركات الناشئة والمتوسّطة بشكلٍ سريع، وخصوصًا في المجالات الطبّيّة والتقنيّة. ولا ننسى أنّ مجلس إدارة هذه الشركة الدوائيّة العملاقة مسؤول أمام المساهمين، وما يتطلّبه ذلك من قواعد العناية حسب أنظمة الشركات. لهذا، يبدو الخيار الأوّل والثاني أكثر منطقيّة، ويبدو الخيار الثاني منطقيًّا عمليًّا مقارنة بالأوّل، وهو ممارَس كثيراً في عالم الاستحواذ والاندماجات، ومتّزن مع النظريّات الاقتصاديّة، حيث عوضاً عن أن تكبر الشركة، وتطوّر منتجاتها من داخل الشركة، بإمكانها أن تختصر هذه المسافة بالاستحواذ/الشراء على شركات أو أصول أخرى، والاستفادة من أصول وأبحاث، وحتّى خبرات من يقف خلف هذه الشركة المستهدَفة.
ومن الناحية النفعيّة الاقتصاديّة، قد يحقّق الخيار الثاني أيضًا فوائد جمّة للأطراف المشتركة (المستحوِذة، والمستحوَذ عليها، والمرضى، والمساهمين، وحتّى على مستوى المجتمع)؛ لأنّ من المفتَرَض أنّ الشركة العملاقة ترمي من خلال الاستحواذ/الشراء إلى تحقيق التعاون والتضافر الاقتصاديّ synergies بينها وبين الشركة المستهدَفة بالصفقة.
ولغير المختصّ، نعني بالتضافر الاقتصاديّ -مع اختصار مفهومه الواسع- تشكُّل كيان ذي كفاءة عالية عندما تتّحد الموارد (الأصول – الأبحاث – الموارد البشريّة… إلخ) بين شركة A (المستحوِذة) وشركة B (المستحوَذ عليها)، وما يستلزم ذلك من التخفيض في التكلفة، والفعاليّة في إدارة الموارد… إلخ. هذا كلّه بافتراض أنّ هدف الشركة المستحوِذة هو التعاون الاقتصاديّ، وليس الحصول على المزيد في الحصص السوقيّة والسيطرة Market-Power.
وينطبق هذا على الشركة المبتكِرة، سواء استُحوِذَ عليها بشكلٍ كلّيّ أو جزئيّ، حيث ستستفيد هي أيضًا من خبرات هذه الشركة العملاقة اللوجيستيّة، فضلاً عن الدعم الماليّ حّتى تستكمل البحث والتطوير، لا سيّما إذا كانت تعاني ماليًّا. وفي نهاية المطاف، يَفترض قانون المنافسة وصول منفعة عامّة إلى المرضى والمستهلكين النهائيّين، ومن هنا جاء مصطلح النفعيّة الاقتصاديّة. إن تحقّق ذلك، فهذا أمر جيّد، ولكن نحن نتحدّث عن ممارسات مختلفة، وهذا الحديث يقودنا إلى الخيار الرابع، وهو الهدف الرئيسيّ لهذا المقال.
استفاد هذا المقال من هذه الدراسة التي سلّطت الضوء لأوّل مرّة بطريقة إحصائيّة على ممارسات قتل الشركات في المجالات الطبّيّة، وسيتتبّع المقال في الجزء الثاني ردود الفعل القانونيّة من هيئات المنافسة الأمريكيّة، والبريطانيّة، والأستراليّة، والأوروبيّة تجاه هذه الممارسات. لا شكّ أنّ اختيار مصطلح “الاستحواذات أو الشركات القاتلة” هو اختيار ذكيّ، وغريب في نفس الوقت. ورغم استعمال الورقة البحثيّة لمصطلح “الاستحواذ”، لكن يعي المختصّ أنّها تسمية تهدف إلى لفت النظر؛ لأنّه يجب تحليل هذه الممارسات تحت إطار “نظريّة الضرر” تحت مفهوم قانون المنافسة. واتّساقًا مع الدراسة، يستمرّ المقال على نفس التسمية.
على مستوى هيئات مراقبة المنافسة، وكردّة فعل تجاه هذه الدراسة، وبهدف توفير المناخ الحامي للشركات المتوسّطة والناشئة لعدم قتلها، بدأت هيئة المنافسة البريطانيّة CMA بالالتفات إلى مثل هذه الممارسات، لا سيّما بعد تقرير فيرمان Furman Report الذي توصّل إلى نتيجة مهمّة، وهي عدم كفاية قانون المنافسة البريطانيّ بوضعه الحاليّ، وكذلك الموقف الأوروبّي، فعلى سبيل المثال، خلصَ التقرير إلى عدم كفاية الاكتفاء بالمبيعات السنويّة لتبليغ أجهزة مراقبة المنافسة، كما في نظام المنافسة السعوديّ المشابه للمنهج الأوروبّي. لهذا، نرى بعض الدول الأوروبيّة قد أضافت الحجم السوقيّ للشركات الداخلة، ويفكّر البعض بإضافة قيمة الصفقة على غرار النظام الأمريكيّ على سبيل المثال.
تَبِعَ هذه الدراسة الاقتصاديّة عدد من الدراسات التي بحثت في مثل هذه الممارسات في مجالات أخرى، وبالذات في الجانب التقنيّ، لا سيّما مع التحوّل الرقميّ الاقتصاديّ، حيث يمكن للشخص ملاحظة ما يفعله الفيسبوك، وقوقل، ومايكروسوفت، والذي أصبح ملفتًا للنظر، ومثيرًا للجدل. لذا، من غير المستغرب سماع بعض الأصوات التي تنادي بمنع الاستحواذات الأفقيّة والرأسيّة على الشركات الناشئة من قبل الشركات ذات الحصّة السوقيّة المسيطرة حتّى تمنح هذه الشركات الناشئة “النفس” والقدرة على التطوّر والنموّ، وربّما المنافسة مستقبلًا. وهذا ما سنناقشه بشكل أوسع في الجزء الثاني.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال