الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قامت فكرة الحوكمة في شركات المساهمة على أكثر من رأي وتباينت الآراء حول التكييف الصحيح القائمة عليه، فكييفها البعض على نظرية الوكالة، بسبب طبيعة العلاقة بين المُلاك ومجلس الإدارة والتنفيذيين، وآخرين على مبدأ حسن النية في تكوين وتنفيذ العقود، وذهب رأي آخر إلى إرجاعها إلى نظرية التعسّف في استعمال الحق الخاص بالمساهمين في التصويت على القرارات داخل الجمعيات ومجلس الإدارة بمسوّغ مصلحة الشركة، وبناء على ما سبق سنستعرض الآراء الفقهية على ضوء النظريات السابقة.
بدأت فكرة نظرية الوكالة مع بداية القرن الماضي وبالتحديد في السبعينات من الاقتصادي المعروف آدم سميث الذي ناقش مشكلة الفصل بين الإدارة والملكية في كتابه ثروة الأمم، وذلك نتيجة لتعارض المصالح بين الإدارة والمساهمين وأصحاب المصالح في الشركات، لمعالجة فكرة المصلحة الخاصة التي يهدف آليها كل طرف لتحقيق مصلحته على حساب الآخرين، ونشأت تلك الفكرة كمحاولة لحل تلك الإشكالية السابقة. لذلك هناك من كييّف الحوكمة إلى نظرية الوكالة كأساس قانوني تقوم عليه، وذلك بسبب أن إدارة الشركة هي مُمثل عن ملاكها “المساهمين” وبالتدقيق نجدهم وكلاء يعملون بأسم الشركة ولحسابها وبناء على ذلك فأن الحقوق والالتزامات الناشئة على الوكالة تنصرف إلى الأصل “الشركة”، دون أن يترتب في ذمة الوكيل “مديري الشركة” أي مسؤولية طالما يعمل في حدود السلطات المخولة له في عقد أو نظام الشركة، ويؤدي ما عليه لخدمة مصلحة الشركة، باذلًا العناية اللازمة.
ويرى شراح القانون في تكييف الحوكمة أن نظرية الوكالة حل عملي لتضارب المصالح الخاصة بالمسيرين “إدارة الشركة” مع مصلحة الشركة، الأمر الذي تناولته قواعد حوكمة شركات المساهمة في النظام السعودي حيث بيّن المنَظم أن مجلس الإدارة هو من يمثل الشركة برابطة تعاقدية ومسؤولية عقدية، وبجميع المساهمين دون وجود رابطة تعاقدية أنما مسؤولية تقصيرية، وأن من واجباته بذل العناية في إدارة الشركة وكذلك بذل كل ما من شأنه صون مصالحها وتنميتها وتعظيم قيمتها، ولكن لم يبيّن المنَظم نوع تلك العناية، ولكن بحسب المهام الموكلة لهم فهي بكل تأكيد عناية الرجل الحريص.
أما عن مفهوم التمثيل في لائحة حوكمة شركات المساهمة فيقصد به تمثيل الوكيل للأصيل، بأنتخابهم من الجمعية العامة بتصويت من المساهمين. ويقع على عاتق مجلس الإدارة المسؤولية في إدارة الشركة، ووفقاً للمادة 77 من نظام الشركات التي أعطت مجلس الإدارة أوسع الصلاحيات في إدارة الشركة المساهمة وتوجيهها بما يحقق أغراضها، وأسند إليه مجموعة من الالتزامات كوضع الخطط الاستراتيجية الشاملة للشركة وخطط العمل الرئيسية وسياسات وإجراءات إدارة المخاطر ومراجعتها وتوجيهاتها، وتحديد الأهداف المالية، والهيكلة الرأسمالية المُثلى، وإقرار الموازنات التقديرية بأنواعها، والإشراف على النفقـات الرأسماليـة والرئيسية للشركـة، وكـذلك تملك الأصـول والتصرف بها، ووضع أهداف الأداء ومراقبة التنفيذ، والمراجعة الدورية للهياكل التنظيمية والوظيفية في الشركة، كما أنها تتوافق مع ما جاء في قواعد حوكمة شركات المساهمة بإلزام مجلس الإدارة بالعمل لما فيه مصلحة للشركة والمساهمين لأنه مرتبط بعقد وكالة يحتم عليه إتيان ما فيه مصلحة الأصيل.
وتأسيساً على السابق يمكننا القول أنه لا يمكن للمساهم مباشرة إدارة الشركات المساهمة أو المشاركة بأعماله بصورة مباشرة كما في باقي أنواع الشركات، فأعضاء مجلس الإدارة وكلاء عنهم في إدارة الشركة، ليظهر لنا ذلك المفهوم “الفصل بين الإدارة والملكية” -الوكالة- من خلال ما سبق من النصوص، وما يترتب على الوكيل في نيابة الأصيل “الشركة” و”المساهمين” في إدارة ومراقبة الأعمال داخل الشركة. ولكن هل دائماً يلتزم الوكيل بما يتحتم عليه تجاه الأصيل، فكما اسلفاً لمجلس الإدارة أوسع الصلاحيات في إدارة الشركة، وله في ذلك الحق باتخاذ القرارات التي من شأنها أن تراعي أو قد لا تراعي مصلحة الشركة والمساهمين أو الملاك تبعاً، وهنا يظهر لنا مفهوم نظرية التعسف في استعمال الحق التي يمكن وصفها بأنها ذلك الحق الذي لم يقصـد من وراء ممارستـه سوى الإضرار بالغير، أو كانت المصلحـة التي يرغب في تحقيقها قليلة الأهمية مقارنة بما يُصيب الغير من ضرر بسببها أو ذلك الحق الذي يتجاوز به صاحبه المألوف في ممارسته، كما يمكن تمثيلها في “إساءة استعمال السلطة المخولة لإدارة الشركة أو لأغلبية المساهمين بإصدار قرارات مُجحفة بحق الأقلية أو أصحاب المصالح”
يرى د. الصالحين محمد العيش” أنه إذا أردنا التعبير عن التعسّف في استعمال الحق توافر عنصرين: الأول ماديًا ويكمن في إلحاق الضرر بالغير. والثانى معنوياً بتوفر نية الإضرار بمصالح الغير، وتباينت الآراء حول العنصر المعنوي إلى ثلاثة مذاهب الأول إلى وجوب توفر نية الإضرار بالأقلية، والثاني بأنه لا حاجة للعنصر المعنوي ويتحقق التعسّف بتوفر العنصر المادي، أما الرأي الثالث فيختلف التعسّف بوجود نية تحقيق منفعة شخصية للمساهمين الأغلبية على الشركة وأن لم تكون هناك نية للإضرار بالأقلية”، وبذلك يمكننا القول أن التعسّف يتحقق بتفضيل فئة دون الأخرى من المساهمين ولتحقيق مصلحة خاصة لتلك الفئة دون غيرها.
يظهر التعسّف في استعمال الحق في الشركات المساهمة بسبب كبر حجم تلك الشركات، وأختلاف المراكز القانونية والحقوق المالية، وكذلك نتيجة لمبدأ “فصل الإدارة عن الملكية” فتتعسّف الأغلبية ضد الأقلية من المساهمين أو تعسّف مجلس الإدارة ضد المساهمين أو ضد مصلحة الشركة أو العكس، هو ظاهرة ملاصقة لفكرة الفصل بين الإدارة والملكية، فللوكيل مصالح خاصة يحرص عليها على حساب الشركة والمساهمين، ومن خلال مفهوم نظرية التعسّف في استعمال الحق يمكننا تحديد معيار يُقاس عليه هذا التعسّف في سبيل إيجاد موازنة بين الجميع وتخفيف حدة الفصل بين الإدارة والملكية لخلق بيئة يطمئن لها الجميع لتسيير الشركة وفقاً لقواعد محدّدة وواضحة، لا يطغى بها أحدًا بمصلحته على الآخر كـ “المصلحة الجماعية”، وبحُسن نية.
عرّف الفقهاء مبدأ حُسن النية في تنفيذ العقود بأنه وفاء المتعاقدين بما التزموا به بأمانة وإخلاص بشكل يحقق الغاية من العقد، وقد نص على هذا المبدأ في القرآن الكريم في قوله تعالى : ” يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود ” وكذلك في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في الحديث: “المسلمون على شروطهم“. وكما هو متعارف عليه أن النشاط التجاري يجب أن يقوم على أساس من الثقة والأمأنة والالتزام، وهذا ما نص عليه في الكثير من الأنظمة والتشريعات، وأن لم تضع له تعريفًا محدّدًا إلا أنها تركته للفقه القانوني والقضاء، ومما يدل على أهميته وضرورته كمبدأ قانوني عام. وجاء تحقيق المبدأ السابق عبر المادة “12” الفقرة “4” من لائحة حوكمة الشركات وذلك ببيان كيفية مراقبة مجلس الإدارة من المساهمين عبر الجمعيات وذلك بفحص مدى التزام أعضاء مجلس الإدارة كمسيرين للشركة بقواعد القانون والأنظمة وأمتثالهم لتلك الأنظمة والقواعد، والتأكد بأنها كانت في مصلحة الشركة ولم تضر بمصالحها أو تسيء لها، بسبب مخالفة قواعد النظام العام أو نظام الشركة الأساسي.
وأخيرًا تقوم إدارة الشركة مُتمثلين في مجلس إدارة الشركة المساهمة بمبدأ حُسن النية لأنهم وكلاء عن الشركة، يديرون الشركة بما يتوافق مع مصالحها ودون تعسّف أو سوء نية، فمبدأ فصل الملكية عن الإدارة يحتم على إدارة الشركة إدارتها بحسن نية ودون تعسّف من منطلق الوكالة، وتمثيلهم للمساهمين الذين انتخبوهم لإدارة الشركة ووفق كل ما يتعلق بذلك، كما أن المسؤولية التقصيرية تقوم جزاء العمل غير المشروع من مجلس الإدارة على المساهمين فلا رابطة عقدية هنا، وبناء على ما سبق ومن خلال تناولنا لنظرية الوكالة ومبدأ حسن النية ونظرية التعسف في استعمال الحق يمكن تكييف الحوكمة على نظرية الوكالة كأساس ونظرية التعسف في استعمال الحق ومبدأ حسن النية كفرع من الأساس بناء على المسؤولية التقصيرية. لذلك يمكن صياغة نظرية قانونية لحوكمة الشركات تهدف للاستدامة الاقتصادية للشركات ابتدأ ثم حماية المساهمين والمتعاملين مع الشركة، وبمفهوم أن الجهات الإدارية والرقابية في الشركات مُلزمة بالعمل لصالح الشركة وزيادة الإئتمان والثقة فيها، وهذا لا يأتي إلا بالإفصاح عن مركزها القانوني والمالي ومدى الإلتزام والإمتثال للقانون وأنظمته الداخلية، إضافة إلى تنفيذ التزاماتها تجاه الغير مع ما يوجبه مبدأ حسن النية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال