الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لاحظنا في الآونة الأخيرة، وخصوصًا مع تطور التقنية وتوفر العديد من الوسائل التي تمنح مساحةً واسعةً للتعبير عن الرأي؛ بأن الكثيرين باتوا يتحدثون عن العديد من المواضيع بالتحليل والنقد والتنظير واقتراح الحلول وغير ذلك. كما لاحظنا أيضًا أن منهم من يبدون آراء وتحليلات ونقاشات وتنظيرات في أكثر من مجال. فتجد أحدهم يتحدث -مثلًا- في الاقتصاد، وكرة القدم، والسياسة، والفقه، والتشريع، والانتخابات التي تحدث في أمريكا وأوروبا، والأدب، والفلسفة، والموسيقى، والتمثيل كل هذه المواضيع مجتمعةً، وهو غير مؤهلٍ للحديث عن أيٍ من تلك المجالات.
وأغلب هؤلاء ليسوا ذوي تخصص ولا يمتلكون خلفيةً معرفيةً كافيةً أوتأهيلًا مناسبًا يجيز لهم أن يمنحوا أنفسهم صفةً للتحدث عن هذه الأمور. سوى أنهم يمتلكون حساباتٍ في وسائل التواصل، وقد تكون أقصى صلة لهم بالموضوع الذي يتحدثون عنه هو أن يكونوا مهتمين به فقط، وربما لا يكونون مهتمين أصلًا، بل مجرد رغبة في مواكبة الجموع بإثبات وجودههم عبر إقحام رأيهم في قضية أو موضوعٍ متداول لا أكثر. الأمر الذي ربما جعلهم يظنون بأنهم يمتلكون الصفة لأن يكونوا مؤهلين للتحدث عن كل تلك المجالات، خصوصًا مع وجود جمهور كبير الكمية رديء النوعية، يفتقر للتمييز بين ما يستحق الاهتمام ومالا يستحق، يقرأ لهم ويثني على آرائهم وكتاباتهم التي هي في الواقع بلا قيمة.
ومن أكثر المواضيع التي اُنتهكت بتناولها بلا صفةٍ، موضوع السلوك الاجتماعي. الجدير بالذكر أن دراسة السلوك الاجتماعي علمٌ له منهج أبحاث وعلماء ومهتمون وجامعات وتخصصات ومراكز دراسات وخطط الخ. ومع ذلك نجد أن كل أحد لدينا يستطيع أن يتحدث عن السلوك الاجتماعي بالتحليل والربط واقتراح الحلول أيضًا. بل وربما يصبح من الشخصيات الأكثر تأثيرًا في هذا المجال ويُستضاف في أهم القنوات للحديث عن تحليلاته.
ويمكن أن نُعّرف السلوك الاجتماعي بأنه يتضمن المعنى الاجتماعي والسياق الاجتماعي وأنماط الاستهلاك، ويقصد به الحوادث الجارية في حياة الفرد اليومية، والأنشطة التي يقوم بها ويتفاعل من خلالها مع المجتمع.
أما بالنسبة لدراسات السلوك الاجتماعي في السعودية، فنجد أنه مجالٌ يندر الباحثون المتخصصون والمؤهلون في موضوعه، كما تندر الدراسات والأرقام التي تصفه. فحين تريد أن تحصل على دراسات عن السلوك الاجتماعي في مجتمعنا، والتي تتبع المنهج العلمي، أعدك بأنها ستكون مهمة مضنية وتستهلك الكثير من وقتك. بيد أن هنالك بعض الدراسات -بغض النظر عن جودتها- أثمرت عن نتائج توضح وجود صفات يتميز بها المجتمع السعودي، منها أن مجتمعنا يتصف بالمبالغة: المبالغة في المظاهر، وفي أنماط الاستهلاك، وحتى في المجاملات الزائفة.
الكثير من الأخبار أو المواضيع التي يتم تداولها في مواقع التواصل والتي باتت تحوز اهتمامَ ووقت الكثير منا تكاد لا تخلو إحداها من المبالغة. ولو دققنا قليلًا في حياتنا لوجدنا أننا نبالغ في الكثير من الأمور.
طالبة تتخرج من المرحلة الابتدائية يُحتفل بها وكأنها نالت درجة رفيعة من أعرق جامعات العالم، ومبتعث يحتفى به على إنجاز وهمي لم نرَ له بحثًا منشورًا يشارُ له على أنه ثورة علمية غير مسبوقة. وفتاة تخوض تجربة الزواج يقام لها أكثر من سبع احتفالات تبدأ بالخطوبة وتنتهي بالاحتفال بطلاقها. وسيدة قامت بالتعبير عن رأيها في قضايا قد يصنفها البعض على أنها جريئة نالت لقب البطولة والنضال، وصحفي تولى رئاسة تحرير أكثر من صحيفة أطلقوا عليه ألقابًا لم تُطلق على أدباء تاريخيين. وعدد المشاركات التي قد تصل للآلاف على مقال مستهلك عن الصحوة ماثلة للعيان.
الجدير بالذكر أن المبالغة أظهرت حبنا الكبير للألقاب التي نمنحها كل يوم لشخصية من المؤكد انها لا تستحقها أو في أحسن الحالات تستحق أقل منها بكثير، وغيرها من مظاهر المبالغة التي نراها حولنا يوميًا. والغريب في الأمر أيضًا هو أنه وحتى مع تردي الأحوال الاقتصادية فإن المبالغة في المظاهر والمناسبات والاحتفالات تزداد يومًا بعد آخر. وهذا الأمر استغله الكثيرون من محدودي الكفاءة وأصحاب الإمكانيات الضعيفة والمواهب الوهمية لتحقيق أرصدة في البنوك من خلال ظهورهم فقط في معرض أو حفل افتتاح أو غيرها من وسائل الدعاية التي يستخدمونها والتي لا تمت لمؤهلهم وإمكانياتهم الحقيقية بصلة، والمؤهل الوحيد لديهم هو أنهم حققوا شهرة من خلال استغلال توفر العديد من الوسائل التي تمنحهم فرصة الظهور من خلالها.
ولا نعلم هل هذه المبالغة التي يعيشها مجتمعنا جاءت لسد النقص في وجود الإبداع والتميز لدينا؟ أم لأننا نفتقد فعلًا لوجود مبدعين حقيقيين؟ أم هي لحبنا للتبجيل الذي لا نجد طريقةً لممارسته إلا بمنحه لغير صاحبه مبالغةً منا؟ أم أنها صفة التصقت بنا وحسب؟ وهل غياب أو ضعف الأنظمة والقوانين والمعايير ساهم في ازدهار هذه المظاهر؟.
لا أجزم بأن هذه ظاهرة سيئة بحد ذاتها، لكن هل نتائجها التي قد تؤدي لتردي الذوق العام وربما تردي الحالة المادية لكثير من الأسر أمر صحي؟ خصوصًا أن ذلك يقابله انتعاش اقتصاد العديد من الجهات والأشخاص الذين وجدوا طريقًا سريعةً وسهلةً لتحقيق الشهرة والمال، ونحو تصنيفهم ضمن قوائم الشخصيات الأكثر تميزًا وتأثيرًا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال