الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما جعلني أكتب هذا المقال أمرين الأول ذلك الاهتمام من قبل مؤسسة النقد “ساما” بمعدل التضخم حاليا، إذ نُشر في صحيفة مال خبرا في 8 مايو 2017 بعنوان “ساما”: نتوقع ارتفاع التضخم في الربع الثاني بعد عودة البدلات”، والآخر ما يردده بعض الاقتصاديين من أن المخرج من حالة الركود -التي يعتقدونها- تتمثل في زيادة الإنفاق الحكومي خصوصا في هذه الفترة بهدف تحريك الطلب، وتخفيف بعض المشاكل التي زادت مؤخرا كالبطالة، فهل فعلا نحن نسير في المسار الصحيح، أم أن عدم فهمنا للعلاقة الديناميكية بين النمو الاقتصادي الحقيقي والتضخم تقودنا إلى الاتجاه الخاطئ، المليء بالمشاكل الاقتصادية.
وتختلف مسميات التضخم باختلاف مسبباته، وفي هذا المقال سنتطرق للتضخم الناتج عن النمو الاقتصادي الحقيقي، والذي أرى أن تُركز المراجع والكتب العربية على كلمة حقيقي عند الاتيان بمصطلح النمو الاقتصادي، حتى لا يقع دارس الاقتصاد في فخ هذا المصطلح، خصوصا عند الربط بينه وبين التضخم.
والتضخم كأحد المتغيرات الاقتصادية يعطي صورة عن الوضع الاقتصادي للبلد، وعن السياسات المحتملة التي تتخذها الحكومات والبنوك المركزية في حالة اتخذ مسارا بعيدا عن ما يُعرف -بالتضخم المستهدف- ، وهو في المتوسط من 2-3% ، فارتفاعه أو انخفاضه بفارق كبير عن ذلك المستوى يؤدي إلى مشاكل اقتصادية، وأضرار اجتماعية.
وهنا نتساءل هل هذا التضخم الذي تسعى إليه مؤسسة النقد نتيجة نمو اقتصادي حقيقي، أم أن هناك أسباب بعيدة عن النمو أدت إلى ذلك، والإجابة على ذلك من جهتين الأولى يسيرة تتمثل في التأمل في ما نستهلكه من سلع والتي أغلبها مستوردة، والأخرى تتطلب قدرا من الربط والتحليل بين مؤشر الدولار العملة التي نستورد بها، وبين ومؤشر سعر المستهلك، فنتيجة لانخفاض سعر صرف الدولار أمام بعض العملات الرئيسة، أدى ذلك لارتفاع ما نستورده من سلع، إضافة لزيادة الإنفاق الحكومي سواء على البنى التحتية والمشاريع الحكومية، أو من خلال رفع رواتب موظفي الدولة، وأدى ذلك في مجملة إلى سلسلة من التضخم غير المبرر في قطاعات وأصول أخرى كالأراضي والعقارات، إضافة للأصول المالية كالأسهم، وهذا أدى أن تُقيم الشركات حين طرحها للاكتتاب بأعلى من قيمتها الحقيقية، هذا خلاف أن كل الشركات التي تمتلك أصولا عقارية ستحصل على تقييم هي أيضا بأعلى من قيمتها الحقيقية.
والتضخم يكون محمودا إذا كان في مستويات معقولة، وكان نتيجة نمو اقتصادي حقيقي، من أبرز علاماته، ارتفاع مستوى التوظف في الاقتصاد، وزيادة السلع والخدمات المنتجة محليا، الناجم عن زيادة الطلب عليها -ليس فقط الزيادة السعرية-، هذا هو المفهوم البسيط للنمو الاقتصادي، ومن أبرز المؤشرات التي تدل على ذلك هو الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن زيادة الناتج المحلي والتي لا يرافقها انخفاض في معدلات البطالة كما هو حاصل في المملكة يجعلنا نتساءل عن الخلل في ذلك.
لو عدنا لتعريف الناتج المحلي الإجمالي اقتصاديا والذي هو القيمة النقدية لجميع السلع والخدمات -المنتجة- داخل البلد خلال فترة زمنية معينة، لوجدنا وبكل بساطة أن الخلل يكمن في اعتبار النفط ضمن السلع المنتجة، في حين أنه مورد طبيعي، وهذا يعني أن الاقتصاد لم يحقق نموا حقيقيا، وإنما نموا نقديا نتيجة ارتفاع أسعار النفط، بعبارة أخرى أننا حاليا ننتج من النفط نفس الكمية أو أقل قليلا، مقارنة بالفترة التي ارتفعت فيها الأسعار، ومع ذلك انخفض الناتج المحلي بشكل كبير جدا.
إن عدم فهم المعنى الحقيقي للتعريف الاقتصادي للناتج المحلي الإجمالي، وعلاقته بالنمو جعل بعض الاقتصاديين يقع في فخ ربط التضخم بالنمو، وهذا صحيحا من الناحية الاقتصادية، إذ أن من آثار النمو الاقتصادي -الحقيقي- حدوث التضخم، وهذا الفخ الذي وقع فيه أولئك، كان في اعتقادهم أننا حققنا نموا اقتصاديا حقيقيا، وفي الواقع أن ذك لم يحدث، وأن النمو الذي حدث وما تبعه من ارتفاع في معدلات التضخم كان سببه الأساسي انخفاض سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسة، وزيادة المضاربات في العقود الآجلة والذي أدى أن ترتفع أسعار النفط، فيزداد بذلك الناتج المحلي الإجمالي ويرتفع النمو من جهة، وتزيد تكاليف السلع المستوردة فيرتفع التضخم من جهة أخرى، ومع زيادة الإنفاق الحكومي على البنى التحتية وزيادة مرتبات الموظفين نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة، أدى ذلك، لاستغلال التجار والمستوردين، وأصحاب العقارات لزيادة أسعارهم، مما أدى أن ينتقل جزءا كبيرا من تلك الزيادات في دخول المواطنين إلى جيوب أولئك، وأنعكس ذلك على معدل التضخم لدينا مرة أخرى، وما إن بدأت تنخفض أسعار النفط، ويتحسن سعر صرف الدولار، تبعه انخفاض في أسعار السلع المستوردة، وتكاليف الاستيراد الأخرى، والذي تزامن مع وفرة في المخزون السلعي، مما أجبر نقاط بيع الجملة والتجزئة لخفض أسعارهم، لتصريف المخزون، وهذا بدوره أنعكس على مؤشر سعر المستهلك، والذي أدى لانخفاض التضخم.
ومن دون شك أن زيادة الإنفاق الحكومي على مشاريع البنى التحتية، في الفترة الذهبية لأسعار النفط، أدى ذلك لزيادة الأنشطة الاقتصادية التي تقتات على إنفاق الحكومة، -إلا أنها تركزت في جانب الإنشاء والتشييد والتوريد – وصاحب ذلك زيادة الطلب على عنصر العمل من قبل الشركات والمؤسسات، وما إن بدأت بوادر العجز في ميزانية الدولة في السنة الماضية، وتقليص الإنفاق، إلا وبدأت الشركات والمؤسسات في الاستغناء عن الكثير من موظفيها، وهنا نتساءل هل كان ذلك التوظف في القطاع الخاص توظفا وهميا، لتلبية متطلبات أنظمة وزارة العمل؛ لتحقيق نسب السعودة ،أو توظيفا حقيقيا، وهذا السؤال أقدر بالإجابة عليه التأمينات الاجتماعية، كونها لديها أسماء المشتركين والقطاعات التي ينتمون إليها، ومؤسسة النقد لعلمها بالمبالغ الحقيقية التي ترد للحسابات كمرتبات العاملين في القطاع الخاص.
أما فيما يردده الكثير من الاقتصاديين في أن المخرج من الركود هو زيادة الإنفاق الحكومي، لتحريك الطلب، مما يؤدي لتنشيط الاقتصاد، فهذا في اعتقادي رأي خاطئ، والسبب من ذلك من جهتين أن الاختلالات الكبيرة التي يعاني منها سوق العمل سواء من الناحية التنظيمية المتعلق بالسوق ذاته، أو من الجهة التي تتعلق بأرباب العمل والقطاع الخاص، لن يؤدي إلى مزيد من فرص العمل للمواطنين، الثاني أن جزءا كبيرا من هذا الإنفاق قد يذهب لقطاعات غير منتجة أصلا سواء كالقطاع العقاري، أو الشركات التي تقتات في إيراداتها على الإنفاق الحكومي، من خلال التوريدات، أو التشغيل والصيانة، أو من خلال قطاع الجملة والتجزئة، هذا خلاف أن زيادة الإنفاق الحكومي في هذه الفترة قدر يؤدي لتحمل الدولة المزيد من النفقات الضخمة من خلال سد العجز عن طريق الاقتراض أو السحب من الاحتياطي، والذي سيخلق بعض المشاكل على المدى المتوسط والبعيد، لتستمر بذلك دوامة الخلل الذي نعاني منها، وعلى اعتبار أن الإنفاق أمرا ضروريا، فمن الأولى أن يتجه للقطاعات التي تعطي قيمة مضافة، وتساعد على خلق الوظائف، شريطة أن لا يكون ذلك الإنفاق لقطاعات تتميز بكثافة رأسمالية ضخمة جدا، على حساب نسب متدنية جدا في عنصر العمل.
وعلى اعتبار أننا نمر بمرحلة ركود كما يدندن حولها الكثير من الاقتصاديين، وهذه الدندنة سببها كما ذكرت، عدم وضوح المعنى الحقيقي لأهم مصطلحات علم الاقتصاد، وهو النمو الاقتصادي، وعدم فهم المعنى الحقيق لأبرز مؤشراته وهو الناتج المحلي الإجمالي، والذي أدى أن يقع الكثير في استنتاج خاطئ وهو الربط بين الناتج المحلي وبين التضخم في المملكة، فنحن حقيقة لا نمر بركود اقتصادي وقد بينت ذلك في مقال لي سابق بعنوان “الحد الفاصل بين التضخم والركود في اقتصادنا.. حقيقة أم وهم؟” بإمكان الرجوع إليه أضغط هنا .
فإن الحل في تنشيط الاقتصاد، النظر لأمرين مهمين هما سوق العمل، وتنظيمه بما يتوافق مع الأنظمة العالمية من حيث ساعات وأوقات العمل، والاهتمام أكثر بمحلات الخدمات وبيع التجزئة التي تُسهم في خلق الوظائف بصورة كبيرة، والتي لا تحتاج سوى تنظيما أكبر، ولا تتطلب قدرا كبيرا من الدعم المادي، إضافة لدعم المنشآت الصغيرة والتي تعطي قيمة مضافة، والسعي لتخفيف التكاليف الرأسمالية التي هي العائق الكبير للاستثمار والمتمثلة في ارتفاع غير المبرر للأصول غير المنتجة، وارتفاع تكلفة الأجور المطلوبة للمواطن، ولعلنا بإذن الله نتطرق لبعض حسنات انخفض التضخم لدينا خصوصا في اقتصاد ريعي كاقتصاد المملكة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال