الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تَقُومُ صناديق الاستثمارات العامة في العالم بدورٍ اقتصاديٍّ جوهريٍّ، ليس فقط على صعيد تشغيل الأموال والحِفَاظِ على قِيمَتِهَا وتَثمِيرِ هذه القيمة، بل أيضاً على مستوى تَحفيزِ كافَّة قطاعات الاقتصاد.
فالصندوق السيادي تكون مَهمَّتُهُ وطنيةٌ أكثر منها اقتصاديةً أو ماليةً، ومن هنا يكون من واجب الصندوق العمل على تحسين الظروف السوقية إذا اختلَّت موازين السوق أو بدأت بَوَادِرُ التباطؤ الاقتصادي بالظهور؛ كما حَدَثَ في آخر 3 سنوات على الصعيد العالمي.
أمَّا في المملكة، فإنَّ اقتصادها يَسِيرُ في اتِّجاهٍ صاعدٍ استثنائيٍّ على مستوى العالم، وهذا الاتِّجاه بحاجةٍ إلى دَعمِهِ بالمزيد من قِوَى الرفع الاقتصادي حتى يَستَمِرَّ وصولاً إلى رؤية 2030.
ومن أهمِّ خطوات دعم التنمية؛ هي دراسة البيئة الاجتماعية وأعمال الفئات التي تعيش خارج العاصمة أو المدن الكبيرة.
حيث يكون على الإدارة الاقتصادية في الدولة عدم تهميش أية فئاتٍ اجتماعيةٍ أو جَعلِهَا خارِجَ حسابَاتِهَا من خطط التنمية.
ومن هنا، يكون دعم الزراعة في المدن الشهيرة بزراعة التمور أمراً أساسياً بالنسبة للمملكة التي تتبوَّأ مركزاً ريادياً في هذه الزراعة على مستوى العالم.
وهكذا، كانت الفكرة من إنشاء صندوق الاستثمارات العامة السعودي لشركة “تراث المدينة” التي تَهدف إلى دعم قطاع الزراعة والأغذية في إطار الهدف الاستراتيجي للصندوق بتنويع الاقتصاد ونُمُوِّ الناتج المحلي الإجمالي.
تنطلق فكرة “تراث المدينة” كشركةٍ من مِحورَيْنِ أساسيَّيْنِ:
الاستثمار في القطاعات غير النفطية؛ وهو من الأهداف الاستراتيجية للمملكة، فالثروة الريعية بحاجةٍ إلى استثمارٍ واعٍ؛ بغرض تحويل مَوَارِدِهَا إلى بناءٍ اقتصاديٍّ حقيقيٍّ قويٍّ وجَذَّابٍ عالمياً، يستطيع الإنتاج والتصدير ويَرتَبِطُ بسلاسل الإمداد العالمية.
تحويل الزراعة إلى عملٍ تجاريٍّ؛ وهي فكرةٌ في غاية الأهمية والتأثير لدولةٍ تحتوي على مناطقٍ زراعيةٍ شَاسِعَةٍ ومجتمعاتٍ زراعيةٍ كاملةٍ، لكن المشكلة هي أنَّ الزراعة بِطَبِيعَتِهَا هي عملٌ مدنيٌّ، وعندما تدخُلُ التجارةُ فيه، فإنَّ الخاسر الأكبر سيكون المزارع الذي سيُصبِحُ ضحيةً لجَشَعِ الشركات التجارية التي تشتري التمور من المزارعين بأثمانٍ بخسةٍ ثم تُصدِّرُهَا وتبيعها بأضعافٍ مُضَاعَفَةٍ. ومن هنا، فقد كان لا بدَّ من شركةٍ مملوكةٍ من صندوق الاستثمارات العامة حتى تقودَ عملية تحويل الزراعة إلى تجارةٍ بشكلٍ عادلٍ يَتَوَخَّى المصلحة العامة، ويَحمِي مصلحة المزارعين، ويُشَجِّعُهُم على الاستمرار بِعَمَلِهِم، والبقاء في حُقُولِهِم.
بناءً عليه، ومنذ انطلاقَةِ شركة “تراث المدينة” كان الغرض الأساسي منها هو:
أولاً: الرؤية الشاملة لرَفعِ الجودة والكفاءة الإنتاجية الزراعية؛ لأنَّ الإنتاج التجاري يجب أن يكون وفق معاييرٍ ومواصفاتٍ مُحدَّدةٍ، وإلاَّ ستَبقَى الزراعة للاستهلاك المَحَلِّي وبأسعارٍ مُنخَفِضَةٍ لا تُغَطِّي إلاَّ جزءاً بسيطاً من تكاليف الإنتاج.
لكن عملية رفع الجودة تَحتَاجُ مبدئياً إلى رؤيةٍ شَامِلَةٍ لواقع جميع أنواع التمور في المملكة، وليس فقط تمر عجوة المدينة؛ لأنَّ القطاع الزراعي لا يَرتَبِطُ بصنفٍ واحدٍ، أمَّا إذا تمَّ الاهتمام بصنفٍ دوناً عن غيره، فإنَّ خسارة الاقتصاد من انهيار جدوى زراعة باقي الأصناف ستأكُلُ أية أرباحٍ من الاستثمار بصنفٍ واحدٍ فقط.
ومن أهمِّ أصناف التمور في المملكة هو “تمر الصفري” من مدينة بيشة؛ والذي يُعتَبَرُ من أجود أنواع التمور الرائجة للتصدير، وذلك لأنَّ قيمة الصفري الغذائية عاليةٌ مع انخفاض نسبة السكر فيه، كما أنَّ حجم الحبَّة من الصفري كبيرٌ يجذب المستوردين؛ هذا من الناحية المادية، أمَّا من حيث التراث اللاَّمادي فإنَّ تمر صفري بيشة مُرتَبِطٌ بالتاريخ السعودي، فقد تغنَّى به الشعراء، وفي مدينة بيشة -موطن تمر الصفري- يوجد مهرجانٌ سنويٌّ خاصٌّ بهذا التمر.
لكن في الواقع، وعلى الرغم من جودة تمر صفري بيشة وارتفاع مستوى تَنَافُسِيَّتِهِ، فلا يتمُّ تصديرُ سوى 40% من إنتاج التمور في بيشة التي تحتوي على حوالي مليونَيْ نخلة.
ولا يقتصر الحديث هنا عن تمر صفري بيشة، بل يوجد في المملكة العديد من التمور الرائجة للتصدير والتي تنتجها مختلف مناطق ومحافظات المملكة؛ مثل سكري القصيم، وإخلاص الأحساء وصقعي الخرج.
ثانياً: الزراعة المستدامة: فليس المطلوب من شركة “تراث المدينة” تحقيقَ موسمٍ أو موسمَيْنِ رَابِحَيْنِ على مستوى إنتاج وتصدير التمور، بل يجب العمل على تأسيس البيئة الزراعية ليس فقط المُتَكَامِلَةِ والمُكتَفِيَةِ ذاتياً، بل أيضاً القادرة على التوسُّع والتطوُّر.
حيث إنَّ زراعة التمور باتت تَكلِفَتُهَا تتجاوَزُ قيمة بيعها بالنسبة للمزارع العادي، ومن هنا يجب أن يكون من مهام الشركة دعم مُتَطَلَّبَاتِ الزراعة؛ مثل الأسمدة والآلات، وتقديم الرعاية والتوعية للمزارعين، وتسهيل مراحل الزراعة، وحماية الزرع عبر توفير المبيدات التي تُرَاعِي المُتَطَلَّبات الصحية.
بعدها، يمكن الحديث عن زراعةٍ مُستَدَامَةٍ، بحيث تكون الأرض قادرةٌ على العطاء، والمزارِعُ رَاغِبَاً بالعمل والبقاء.
ثالثاً: تسويق المنتجات الزراعية: وهي مهمَّةٌ مُرتَبِطَةٌ بالهوية التجارية للزراعة في المستقبل، والتي يَتَوَجَّبُ أن تكون من أساسيات العمل الزراعي؛ ففي الماضي كانت العقبة الأساسية أمام المزارع ليست جودة التمور، بل القدرة على إيجاد مُشتَرٍ لها يُقدِّر مُوَاصَفَاتِهَا، ولا يَستَغِلُّ حاجة المزارع لبَيعِهَا قبل فَسَادِهَا، وعدم القدرة على حِفظِهَا وتَخزِينِهَا.
فإذا استَطَاعَتْ شركة: “تراث المدينة” تَغطِيةَ الجانب التسويقيِّ، فإنَّ هذا لوَحدِهِ يَكفَلُ انتقال زراعة التمور بالمملكة من عملٍ مدنيٍّ مُكلِفٍ مُرتَبِطٍ بالتراث والهوية، إلى عملٍ داعمٍ للاستثمار والميزانية.
لكن نُؤَكِّدُ مرة أخرى، على ضرورة العمل التسويقي الشامل للتمور، وليس فقط عجوة المدينة، فمثلاً تمر صفري بيشة يُنَافِسُ التمور الرائِدَةَ على مستوى التصدير في جُودَتِهِ، فهنا إذا تمَّ التواصل مع أسواق الاستيراد وتَوعِيَتُهَا إلى معايير الجودة في تمر صفري بيشة، فمن الممكن أن يتمَّ استبدال التمور الأجنبية بتمر صفري بيشة السعودي.
رابعاً: التعريف بالعلامة التجارية: تبدو العلامة التجارية الزراعية من العناصر المعنوية الشكلية للناس غير المتخصِّصين، لكن في الحقيقة يحتاج بناء علامةٍ تجاريةٍ ناجحةٍ عُمرَاً طويلاً من الإنتاج الزراعي بأعلى جودةٍ ممكنةٍ، وبناء العلاقات مع خطوط الإمداد بتجهيزات الزراعة، وخطوط تصدير المنتجات، وبعدها تَتَرَاكَمُ الثقة لدى المُستَهلِكِينَ حول العالم؛ حتى تَصِل َالعلامة التجارية إلى مستوى التنافسية العالمية القوي.
وعندها، يكون للعلامة التجارية سوق استيرادٍ مُستَدَامٍ يَرفِدُ الميزانية، ويَرفَعُ من مستوى معيشة الفئات العاملة بالزراعة.
وبالمُحَصِّلَةِ، فإنَّ تأسيس شركة “تراث المدينة” لطالما كان حُلمَاً يُرَاوِدُ فئاتٍ وَاسِعَةٍ من الشعب السعودي العامِلِ بالزراعة، وكان هَدَفَاً استراتيجياً للدولة حتى تستطيعَ استثمارَ ثروة التمور لديها؛ لذا نتمنَّى صِيَاغَةَ أنظمة هذه الشركة وحوكمتها بما يَتَنَاسَبُ مع مَسؤوليَّتِهَا الشاملة لجميع أراضي المملكة، وبما يُرَاعِي تَطَلُّعَاتِ المزارع السعودي، ويَنشُرُ الفائدة والنمو في جميع حقول المملكة.
وعليه نقترح تعديل اسم شركة “تراث المدينة” إلى “تراث السعودية” حتى تترسخ هوية الصناعة الزراعية باسم المملكة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال