الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أثبت ثاني أكبر اقتصاد في العالم أن التسارع في النمو قد لا يكون واقعياً ومجدياً في ظل عدم استدامته وضعف مقوماته، خاصةً بعد اعتراف الصين بأن تعافي اقتصادها من جائحة كورونا سيكون صعباً وقاسياً. وتأكيداً لذلك فاجأت الصين دول العالم في منتصف الشهر الماضي بصدور سلسلة من المؤشرات الإحصائية المخيبة للآمال، مسجلةً المزيد من انخفاض مبيعات التجزئة، المؤشر الرئيسي لاستهلاك الأسر، بنسبة 2.5%، وبالتالي تصاعد مخاطر الانكماش، ليتراجع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 0.3% في يوليو الماضي على أساس سنوي، في أول هبوط سنوي له منذ فبراير 2021، لتعد الصين البلد الوحيد في العالم الذي يعاني من الانكماش في الوقت الذي تعاني معظم دول العالم من التضخم.
ونتيجة لتراجع الاستهلاك في الصين انخفضت وارداتها بنسبة 12.4%، بالإضافة لتراجع وارداتها من النفط الخام في شهر يوليو الماضي بنسبة 18.8% على أساس شهري. كما جاء ضعف الطلب الخارجي على المنتجات الصينية ليتسبب في تراجع صادرات الصين بنسبة 14.5% في يوليو على أساس سنوي، مما تسبب في انخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 3.7% في شهر يوليو الماضي، وتزايد البطالة لدى الشباب بنسبة قياسية بلغت 21.3% في شهر يونيو الماضي، في حين ارتفعت نسبة البطالة الإجمالية من 5.2% إلى 5.3% في شهر يوليو.
وتتفاقم مشاكل الاقتصاد الصيني يوماً بعد يوم نتيجة انخفاض معدلات ادخار المواطن الصيني، التي لا تدفع إلى الاستهلاك كمكون من مكونات النمو، فالصينيون الذين امتلكوا على مدى العقود الماضية ارتفاعاً مذهلاً في معدلات الادخار، وأصبح لديهم أعلى معدل ادخار في العالم خلال عام 2010، تراجع هذا الادخار إلى النصف في العام الماضي. وأمام هذا التراجع فشلت الصين في تحويل اقتصادها إلى اقتصاد السوق المدفوع بحركة الاستهلاك، لأسباب تتعلق بارتفاع ديون الأسر إلى أكثر من 100% بحلول العام الجاري.
وتزامنت هذه المؤشرات السلبية مع ارتفاع قيمة فاتورة الإنفاق الضخمة للحكومات المحلية، التي ارتفعت بنسبة 89% من إجمالي الإنفاق الحكومي، بما في ذلك النفقات خارج الموازنة التي يتم تمويلها من خلال آليات التمويل الحكومية المحلية وبيع الأراضي والاستدانة، لترتفع ديونها المتوقعة بين عامي 2023 و2024 أربعة أضعاف ما كانت عليه، وتمثل 39% من إجمالي ديون الصين. وكان لتعرض القطاع العقاري الصيني لأزمة ديون في نهاية عام 2021، أكبر الأثر في تعثر الشركات العقارية الكبرى وعجزها عن سداد ديونها، التي فاقت 81 مليار دولار في العامين الماضيين مما عاد شبح إفلاس هذه الشركات إلى صدارة المشهد الاقتصادي المتردي.
وبناءً على هذه المؤشرات المخيبة للآمال، شهدت أسواق الأسهم الصينية خلال الربع الثاني من العام الجاري انخفاضاً بمعدل 20% عن أعلى مستوى بلغته هذا العام، وبانخفاض بلغ 54% عما كانت عليه في فبراير من عام 2022. وبات المستثمرين العالميين والمحليين في الأسواق المالية الصينية يتساءلون عن سبب هذا التراجع الكبير في ميزان ثرواتهم، خاصةً وأن الإعلان عن هذه المؤشرات السلبية جاءت بعد تراجع معدلات النمو الاقتصادي لعام 2023، لتزيد من تصاعد الديون الصينية وتفاقم وتيرة الانكماش الاقتصادي لتشهد الصين في العام الجاري نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة لا تزيد عن 5%، وهو الأقل منذ ثلاثة عقود، مع توقعات تبدو أسوأ في عام 2024.
وفي خضم هذه المعاناة، صدر في منتصف العام الجاري التعداد السكاني السنوي المتوقع لعام 2023، ليضيف مؤشر سلبي آخر أكثر خطورة نتيجة انخفاض عدد سكان الصين للمرة الأولى منذ عام 1961، وسط توقعات باستمرار تراجع عدد مواطني الصين من 1.4 مليار نسمة حالياً إلى أقل من 800 مليون شخص بنهاية القرن الحالي.
ولا شك أن التوترات الجيوسياسية المتزايدة بين الصين والدول الغربية بشأن جزيرة تايوان، إضافةً لتأزم الحرب التجارية بين أمريكا والصين، ألقت بظلالها على المستثمرين من القطاع الخاص، فتراجعت معدلات الاستثمار في الأسواق الصينية إلى أقل من 3.9% في العام الجاري على أساس سنوي، ليتخلف الاستثمار عن تسريع نمو الاقتصاد الكلي الصيني. وكان لذلك أبلغ الأثر في تراجع العملة الصينية من 6.8 إلى 7.25 يوان مقابل الدولار الأمريكي. ويعكس انخفاض قيمة العملة الصينية أيضاً تراجعاً في ثقة المستثمرين كرد فعل على إصرار الحكومة الصينية استمرار سياستها في إضرام التوترات الجيوسياسية.
ونتيجة لما سبق سارع مجلس الدولة الصيني في الشهر الماضي إلى إصدار خطة من 20 هدفاً لتشجيع المواطنين والمستثمرين على زيادة الإنفاق في قطاعات اقتصادية عدة، مثل خدمات النقل والسياحة والصناعة والعقار. كما سارع بنك الشعب الصيني إلى تخفيض معدلات الفائدة على الإقراض لأجل عام بمقدار 15 نقطة أساس إلى 2.65%، في ثاني تخفيض له في ثلاثة أشهر. وفي نفس الوقت، قرر البنك المركزي الصيني خفض الفائدة على تسهيلات الإقراض لمدة ليلة واحدة وسبعة أيام وشهر بمقدار 10 نقاط أساس إلى 2.65% و2.8% و3.15% على الترتيب. وبالإضافة إلى هذه الخطوات، بادر البنك المركزي الصيني بضخ 104 مليار دولار أمريكي عبر آلية الريبو العكسي، بالإضافة إلى التدخل لدعم العملة المحلية الصينية. وتشير التوقعات إلى أن بنك الشعب سيواصل عمليات خفض الفائدة في وقت لاحق من هذا الشهر.
ولعل كبرى الاقتصادات العالمية، مثل الصين، تقتنع بأن التحول من النمو المرتفع إلى النمو المنخفض لا يمكن أن يتم في لمح البصر. فالمارد الصيني، الذي قام منذ انضمامه لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001، بسرعة تطوير بنيته التحتية وعقاراته الوطنية، وتمويل صادرات شركات التصنيع ودعمها لتشجيعها على منافسة أقرانها على الصعيد العالمي، ساهم في هجرة 600 مليون صيني إلى المراكز الحضرية. وصاحب ذلك تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي بلغ متوسطه 8.9% سنوياً، وارتفاع متوسط دخل الفرد الصيني في المناطق الحضرية من 428 دولار إلى 16,290 دولار أمريكي خلال تلك الفترة. إلا أن تمادي الحكومة الصينية في مخالفة التزاماتها تجاه الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة، وخاصةً في تعديها على حقوق الملكية الفكرية وتلاعبها بالعملة المحلية واندفاعها لغزو الأسواق العالمية بمنتجاتها ذات المواصفات الضعيفة، أدت مؤخراً إلى حالة من الارتباك نتيجة فشل هذه السياسات الاقتصادية المعتمدة على المخالفات والمشهورة باسم “الرخاء المشترك”. وكان لمواصلة الحكومة الصينية الابتعاد عن سياسة اقتصاد السوق وتدخلها في التجارة نيابة عن القطاع الخاص الأثر الأكبر في تراجع الشركات الصينية، التي لجأت إلى النمو السريع في الإيرادات والأرباح بعيداً عن رقابة الدولة.
وكان متوقعاً أن يؤدي هذا الأداء الاقتصادي السيئ لنتائج مخيبة للآمال وباتت واضحة مع انتشار وباء كورونا قبل أربع سنوات، الذي أدى إلى إضعاف وتيرة الصادرات وتشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار في صناعات النمو المتسارع والمرهون باستراتيجيات اقتصادية خاطئة. وبدلاً من تعديل مسارها المخالف لقواعد وأحكام النظام التجاري العالمي، فشلت الصين في إطلاق مبادراتها الضعيفة والمحدودة لخفض أسعار الفائدة وتوفير المزيد من السيولة في السوق المحلي، الذي أدى بدوره إلى ضعف ثقة المستهلكين، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وتوتر الخلافات التجارية مع الدول الغربية.
وأدى ذلك إلى استمرار شكوك دول العالم حول السياسات الاقتصادية الصينية المخالفة لالتزاماتها في منظمة التجارة العالمية، مما أدى إلى لجوء الصين للتحرك وتخفيف وطأة المخاطر المؤدية لازدياد وتيرة الدعاوي المرفوعة ضدها في هيئة حسم المنازعات التجارية بالمنظمة. إلا أن التوازن بين المعالجة والتحوط الذي اتبعته الصين في حراكها كان في اتجاه سلبي مدفوع بعوامل طويلة الأجل لا تستطيع الحكومة الصينية تفادي نتائجها على المدى القصير. وكان من المفروض أن يحشد الاقتصاد الصيني موارده في المجالات الاستراتيجية، التي تعتمد على أهداف التنمية المستدامة، لتواجه الصين التحديات الديموغرافية الخاصة بها في السنوات المقبلة، وإلا فإن تراجع اقتصادها وأفول وميضه سيصبح في السنوات القليلة القادمة أمراً حتمياً.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال