الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين استُكْتِبْتُ في وقتٍ ما لأكتب نصيحةً لـ”بعض” دارسي القانون المجافين للغة العربية التي لم تعد تلقى رواجاً بين الجيل النضيد وغدت وصمة عتَب وكَرَب على محبيها في سباق العصرنة المحموم، كتبتُ موجِزاً لكل شاب قرر أن يخوض بزورقه الصغير غمارَ القانون المتلاطمةِ أمواجُه المتعاظمة لججُه الغامضة حججُه طامحاً أو طامعاً أن يغدو ربّاناً ماهراً على متن سفينةٍ عريضة المنكبين: (عزيزي القانوني الناشئ: تَهَتُّك أستار لغتك على أسوار شفتيك لا يليق بك غداً كقاضٍ ولا كمحامٍ ولا كأستاذ قانون).
بل ولا حتى خصيماً قادته خصومته إلى ردهات المحاكم، فبلاغة المنطق أمام القضاء محورٌ مؤثر في إيصال الحق لأصحابه في وظيفة القانوني وعمله مذ بكور صباحاته حتى يغدو بطاناً مالئاً جعبته بالمذكرات والجوابات والمطالبات والوكالات والكلالات، فأستار لغتك -عزيزي القانوني- هي هندسة مهنتك وسر حرفتك وسرج فرسك وسحر صنعتك، ولن تملك رهان البرهان ما لم تملك بنيان البيان، فلا غُنية لصناعة القانون “علوماً وأعلاماً وأعمالاً” بالغاً ما بلغ شرفها وعالياً ما حلقت أجنحتها عن علم اللغة العربية بأصوله البلاغية الفريدة وقواعده النحوية الأصيلة وفقهيات ملامحه اللفظية البديعة وفلسفة سياقات الكلمة وجغرافية الحرف على خارطة المعنى، هكذا هو قَدَر كل قانوني هميم: أن يمتطي صهوة بلاغته ليقطع فلوات النجاح فينقض المحكوم وينقذ المحكوم ويسعد المكلوم وينصر المظلوم، وقبل أن تسلك في مسارب الإيراد على هذا الرأي مسلكاً فاغطس عميقاً في صكوك الأحكام ولوائح الادعاء -وقبلهما وبينهما- في نصوص الأنظمة ولوائحها لتُرى كيف يمكن للحرف أن يقود للحتف أو يشمخ بالأنف، وكيف أن بين المنطوق والمنطوق أبعد ما بين المشرقين مع اتفاق المبنى وافتراق المعنى، وكيف يريد الموكل لحمة فيطلب الوكيل شحمة، وكيف يدفع أحدهم الحق من حيث أراد أن يدافع عن الحق.
فاحذر أن يثبّطك المخلّفون عن ركب الفصاحة لتخلع بُردة إرثك في سوق الرقاع الملونة بثمن بخس وتستبدلها بغَلّة ألفاظ دارجة وحصيلة تراكيب مزوّقة، بل امضِ -ولا يلفت من أَحدِك أحدٌ- إلى حيثُ سواحل اللغة العربية وشطآنها ولذيذ معانيها وفريد مبانيها ورَوح أنفاسها ورُوح نفائسها فهي قِوام القانون الممشوق وتاج القضاء المرموق، وخَلَّة الحكماء وحُلّة النبلاء وحِلية البلغاء وحيلة الأذكياء.
وإن غدوت من أهلك بارياً قوس مهنتك وناثراً كنانة صنعتك لتصبح ميزاب خير تغمر الناس بجلب الحقوق وردها ومنع المظالم وصدها؛ فلا تفتأ مقلّباً في كتاب ربك نظرَك؛ فإن كل الدروس والنظريات وعَشرات المعارف واللغويات وعِشارات الكتب والمكتبات لن تكسوك حِلية (الصياغة القانونية) بقدر ما ستكتسبه من غذاء القرآن الكريم منبع الحجج والبراهين أرديةِ القضاة والمحامين.
عزيزي القانوني الناشئ: إن شئت أن تَنبت في حقول القانون نباتاً حسناً فيقوى عودك ويبسق علمك وينضج فهمك .. لتتفيأ في بستان زرعك حصادَ جهدك؛ فلا يخترمنَّ نسيجَ بلاغتك أن الناس لم تعد تقوى على صهيل وقعها وكبرياء حرفها ومَقَارع جَرْسها، ولك في كتاب ربك الموشّح بأوشحة الفصاحة والمحتجّ به على غير ذي اللسان العربي أسوة، واعلم أن معترك القانونيين الأبدي:
أنهم لا يعزفون ما تشتهي الأسماعُ سماعَه، ولا يكتبون ما تملي الأمزجة أُجاجَه، إنما ما تمليه الضمائر وتظهره الحقائق، فأوزان الأدمغة بموازين الدوامغ لا بمنعطفات العواطف، فإنك إنْ تقل قولاً أو تكتب كلِماً فتتماهى بسبكه مع ما درج وتتعارج بحياكته مع ما عرج مراعاةً للذوق العام الذي ظل منذ القِدم يهوي إلى أسمال اللحون البالية فستجد نفسك حاطب ليل لا صائغ حرف ولربما احتطبتَ في ظلمة ليلٍ أليَل دون أن تدري -ومن يدري- فحيحَ اللسانيات تحت فيحِ الملاسنات في شبكات التصارع الاجتماعي !
أما أنا فسأكتفي غداً الاثنين بمطالعةٍ ناعسةٍ لوسم #اليوم_العالمي_للغة_العربية الموافق للثامن عشر من آخر أشهر السنة الميلادية الذي لا يتسامر فيه سوى القلة المهاجرة من هدير التقنية الحديثة إلى أدبيات الزمن الجميل كما لو كنتُ متكئاً على كرسيٍ متصَرصِرٍ بحذاء طاولةِ قهوةٍ قديمة من قهوات الصباح الاسكندرانية أو البغدادية أسترق السمع ببرود لسجالات أدباء السبعينيات الساخرة من حولي ..
على كل حال:
أرجو أن تعيد قراءة العنوان؛ “هي ذبذبات لا ذبات”.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال