الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
صدر مؤخراً قرار مجلس الوزراء رقم 483 بتاريخ 20-6-1445، بشأن حوكمة ترجمة ونشر الوثائق النظامية؛ ولم يكن هذا القرار عادياً بالمطلق، بل هو تحول جذري في طريقة النظر إلى التشريع من باب العولمة، وإلى الحوكمة بأوسع رؤية تطبيقية.
الأهمية التشريعية الاستثنائية للقرار..
إذا دققنا النظر في القرار نجده تحت عنوان: “حوكمة الترجمة”، فالحوكمة هنا ليست معطوفة على الترجمة، بل إن الحوكمة تستهدف تنظيم الترجمة، وهو نوع من الارتقاء بالفكر التنفيذي.
وتظهر أهمية قرار: “حوكمة الترجمة” بشكل استثنائي، من احتوائه على عملية إدارية ابتكارية تتمثل في تطويع الحوكمة كمنهج تطويري للإدارة في خدمة عملية استراتيجية نحو ترسيخ مكانة المملكة على خريطة التجارة الدولية وطرق الإمداد، هذه العملية هي: “عولمة التشريع”.
فالدولة الراغبة ليس فقط بجذب رؤوس الأموال واستقطاب سلاسل الإمداد، بل إلى أن تصبح عقدة وصل رئيسية لطرق الإمداد العالمية، وحلقة أساسية ضمن سلاسل التجارة الدولية؛ هذه الدولة يجب أن تتمتع بطابع تشريعي عالمي، وهذا يعتبر من أهم الآثار العملية لقرار “حوكمة الترجمة”، وهو الأمر الذي يتطلب القيام بترجمة التشريعات من أنظمة ولوائح.
حوكمة الترجمة التشريعية..
من الفكر المعرفي إلى الاصطلاحي
إذا كنا بصدد ترجمة أدبية، فنحن نكون أمام عمل لغوي مجازي؛ أي أن التشابيه والاستعارات والأوصاف اللغوية تأخذ دور البطولة في النسيج اللغوي للترجمة.
أما في الترجمة القانونية، فنكون أمام عملية لغوية مختلفة جذريا، حيث إن المترجم سيعمل على نقل الفكرة من لغة إلى أخرى مع التقيد التام بمعناها الدقيق دون أية مبالغة أو أية لمسة شخصية.
أي أننا نكون أمام ترجمة علمية موضوعية بحتة، لا يجوز فيها تسخير المرادفات، والإمكانيات اللغوية في سبيل تجميل النص أو وضعه ضمن إطار ثقافة مختلفة تنتمي إلى بيئة ديموغرافية مختلفة، بل يجب أن تكون الترجمة العلمية أشبه بتصوير منضبط للمعنى.
وهنا يكمن التحدي، فالمترجم القانوني خلال سعيه إلى نقل المعنى بدقة وموضوعية قد يقع في فخ الترجمة الحرفية؛ أي التي تنقل الفكرة من لغة إلى أخرى دون أن تراعي بعدها الاصطلاحي.
في عملية الترجمة القانونية تظهر خطورة المعنى المصطلحي للكلمات خلال نقلها في ترجمة التشريعات من لغة إلى أخرى، وبشكل خاص من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى؛ حيث إن المعاني العربية تتمتع باتساع في نطاق المقاصد الأساسية والضمنية، أو ما نطلق عليه في ثقافتنا: “ما بين السطور”.
بناء عليه، فإن من أهم عوامل نجاح حوكمة الترجمة التشريعية؛ هو تحديد الآلية اللغوية للانتقال من الفكر المعرفي المجرد إلى المعنى الاصطلاحي الذي يتوازى مع ذات المعنى في اللغة الأجنبية المقابلة.
هذه الآلية المطلوبة تتطلب وجود كادر عمل لغوي قانوني متخصص بالترجمة القانونية؛ الأمر الذي يوضح أن المملكة على أعتاب إنشاء قطاع علمي عابر للتخصصات اللغوية والقانونية.
الترجمة القانونية ووضوح المعنى ..
في الشق الثاني من الانتقال نحو عولمة التشريع، يجب أن يتم ترجمة جميع اللوائح الرسمية؛ وهي عبارة عن كافة القواعد القانونية التي تضعها الوزارات والهيئات وكافة الدوائر الحكومية. فأكثر ما يؤرق المستثمر أو السائح في التعامل مع الجهات الحكومية هو الاطلاع على اللوائح التنفيذية وفهم معناها وإدراك آثارها القانونية، الأمر الذي يتطلب ترجمة كافة اللوائح من العربية إلى الإنجليزية على اعتبار أنها لغة ذات بعد عالمي.
لكن التحدي لا يقف عند هذا الحد، فحتى وإن تم حل مسألة الترجمة الحرفية أو المصطلحية، تظهر إشكاليات أخرى في عملية ترجمة اللوائح التنفيذية والقواعد التفصيلية؛ مثل عدم الوضوح في المعنى.
فالكثير من الناس لا يدركون تفاصيل هذه اللوائح، ويضطرون للاستعانة بمستشار قانوني من أجل توقيع مستندات بلغتهم العربية الأصلية؛ والسبب يكمن في اقتضاب الجمل ضمن هذه اللوائح، واحتوائها على جمل غير شائعة أو ذات دلالات متعارف عليها ضمن بيئة الموظفين والإدارة الحكومية، في الوقت الذي تكون غير معروفة إطلاقا للناس العاديين أو غير المتخصصين.
بناء عليه، فإن ترجمة اللوائح يجب أن تتخذ منهج الوصفية المبسطة، عبر توضيح المعنى بأبعاده المصطلحية، وإرفاقه بورقة إضافية تتوسع في توضيح الأثر القانوني لكل مستند.
فلا يكفي إنشاء إدارات فرعية للترجمة ضمن الجهات الحكومية فقط، بل يمكن إنشاء وحدة إرشاد لغوية-قانونية للأجانب في كل دائرة حكومية؛ بحيث تدمج بين الشؤون القانونية والترجمة التشريعية، وتكون مهمتها شرح معاني اللوائح وآثارها على المتعاملين مع الدولة.
إدارة حوكمة الترجمة..
من العقلية العلمية الأكاديمية إلى العملية التطبيقية
أطلقت مؤخراً عمادة الدراسات العليا في جامعة الملك سعود دبلوم عالي للترجمة القانونية، بحيث استهدف الدبلوم المترجمين اللغويين والمحامين؛ وذلك بما يفتح آفاق العمل للمتخرجين من هذا الدبلوم في الوزارات والإدارات الحكومية وحتى في القطاع الخاص.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الخطوة الأكاديمية المميزة للترجمة القانونية يجب أن تترافق مع فكر عملي تطبيقي.
فالتحدي الأساس الذي يواجه كل قانوني هو الفرق بين المقررات والامتحانات الأكاديمية النظرية وبين الواقع العملي الذي ينصدم به القانوني بعد التخرج، فكيف ستكون هذه الصدمة العملية بالنسبة لشخص لغوي غير متخصص بالقانون أصلا؟
لذا، يمكن أن يتجاوز الدبلوم العالي للترجمة القانونية هذه التحديات العملية عبر تأهيل الخريجين من خلال مقررات تطبيقية هادفة إلى زيادة مكاتب وشركات قانونية ودوائر حكومية وغيرها من الجهات التي سيتأثر عملها بمدى جودة الترجمة القانونية.
في الختام، نستطيع القول بأن: “حوكمة الترجمة” ستكون خطوة أساسية من خطوات الانتقال نحو منهج التشريع بالمملكة، وهي الخطوة التي تمثل للمستثمرين الأجانب المفتاح الحقيقي لدخول السوق السعودي والاستفادة من ميزات الاستثمار فيه، كما إن هذه الخطوة تعتبر داعما مباشرا للثقافة التشريعية بالمملكة، وهنا بيت القصيد.
فالترجمة ما هي إلا نقل المعنى من لغة إلى أخرى، ولا يمكن أن تحمل إضافة موضوعية في جودة العمل التشريعي. أي أن “عولمة التشريع” التي تعتمد على الترجمة فقط؛ هي عبارة عن عولمة لغوية، أما المأمول فهو أن تتم العولمة التشريعية أيضاً بالأبعاد الموضوعية؛ عبر الاستفادة من الخبرات التي راكمتها المدارس القانونية حول العالم؛ ضمن الأطر الشرعية، وتحت سقف الروح الثقافية للمملكة، ورؤيتها للمستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال