3666 144 055
[email protected]
في حديث لوزير الاقتصاد والتخطيط لصحيفة “الاقتصادية”، ذكر أن مشكلة البطالة لا تنتهي “كونها سنة من سنن الحياة”، مؤكدا أن نسبة البطالة بين الذكور “تعتبر معقولة، إلا أنها بين الإناث مرتفعة جدا”. قد يكون الدكتور محمد الجاسر، وهو رجل اقتصادي بالخبرة والدراسة، يتحدث بلغة اقتصادية لا يفهمها الشخص العادي، وربما فات عليه أن بعض المصطلحات الاقتصادية تأخذ معنى مخالفا في أذهان عموم الناس، فلم يدرك أن كلمة “معقولة” تحتمل عدة معان خلاف معناها الاقتصادي. فليس بالأمر الهين للمواطن العادي، خصوصا من هو عاطل عن العمل، أن يسمع من مسؤول حكومي كبير، معني بوضع الحلول اللازمة لمعالجة البطالة، أن معدل البطالة بين الذكور معقول، فيفهم منه أن لا حاجة هناك لبذل أي جهود استثنائية لتصحيح الوضع. هنا سأحاول الإجابة عما إذا كانت نسبة البطالة بين الذكور معقولة من ناحية اجتماعية واقتصادية.
بلغت نسبة البطالة بين السعوديين (ذكور وإناث) في عام 2013، بحسب مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، نسبة 11,7 في المائة، أي أن هناك 622 ألف عاطل عن العمل من إجمالي القوة العاملة السعودية، البالغ عددها 5,3 مليون شخص، 4,2 مليون رجل و1,1 مليون امرأة. من هؤلاء العاطلين عن العمل، هناك 260 ألف رجل و360 ألف امرأة، لذا فإن نسبة البطالة بين الذكور 6,1 في المائة، وبين الإناث 33,2 في المائة. لذلك فإن مقولة أن نسبة بطالة الذكور “معقولة” قد تكون صحيحة مقارنة بنسبتها بين النساء، ولكن هل هي بالفعل معقولة؟ وهل يوجد في الأدبيات الاقتصادية ما يعرف بالبطالة “المعقولة”؟
لا يوجد في الواقع مصطلح بطالة معقولة، ولكن هناك مصطلحات قريبة من هذا المعنى، وهي البطالة الطبيعية أو البطالة المثالية، وهذا المسمى له معنى معين لا يخلو من الجدل حول معناه الحقيقي، ناهيك عن كيفية حسابه، بالرغم من أن الأبحاث حول مفهوم البطالة الطبيعية ساعدت بشكل مباشر على حصول كل من ميلتون فريدمان وإدموند فيلبس على جائزتي نوبل في الاقتصاد. بشكل عام، يقصد بالبطالة الطبيعية تلك البطالة التي تنتج بسبب ظروف غير مرتبطة مباشرة بالاقتصاد نفسه ولا بسوق العمل، بل بالعامل نفسه وبميكانيكية سوق العمل. عندما يكون لدينا عدة ملايين من العمال وعدة ملايين من الوظائف، فمن الطبيعي أن تكون هناك فترات يوجد فيها بطالة نتيجة بحث العمال عن أعمال تناسب مؤهلاتهم وتطلعاتهم، وكذلك بحث أرباب العمل عن العمال المناسبين للوظائف المتوافرة. وقد تمتد فترة البطالة هذه لعدة أشهر وتتجدد باستمرار كنتيجة حتمية لطبيعة البشر الذين يبحثون دائما عن الأفضل تماشيا مع أذواقهم وقدراتهم وشخصياتهم. إذا هناك بطالة احتكاكية بسبب تحركات العمال، وهناك بطالة هيكلية بسبب تضارب متطلبات العمل مع مؤهلات المتقدمين للعمل، فيمكننا القول إن البطالة الناتجة عن هذين السببين بطالة طبيعية، وهذا ربما يفسر جزئياً مقولة الوزير أن البطالة سنة من سنن الحياة.
هناك كذلك منظور آخر للبطالة الطبيعية يأتينا من النظرية الكلاسيكية التي تقول إنه عندما يكون الاقتصاد يعمل بكامل طاقته ويكون الإنتاج الكلي عند مستوياته الممكنة على المدى الطويل، فإن معدل البطالة الظاهر هو لبطالة طبيعية. أي أنه في حال شغل جميع الوظائف المتاحة في الاقتصاد العامل بكامل طاقته، فإن أي بطالة ناتجة ليست إلا نتاجا طبيعيا للوضع الاقتصادي، لا يمكننا عمل أي شيء إزاءها. فإن تدخلت الحكومة وتوسعت في سياستها المالية بالصرف والمعونات والمنح وغيرها، فإن ذلك لن يجدي نفعا لعدم قدرة الاقتصاد على مزيد من الإنتاج وتوفير وظائف جديدة، وإن تحقق ذلك فسيكون على حساب تضخم غير محمود في الأسعار. فهل الاقتصاد السعودي يعمل بكامل طاقته ومستوى الإنتاج في أعلى مستوياته بالشكل الذي يجعلنا غير قادرين على خفض مستوى البطالة بشكل أكبر؟ لا أعتقد ذلك، ولكن لو كان هذا صحيحا بالفعل فيمكننا القول إن البطالة “معقولة” أو طبيعية.
نقطة أخرى تؤيد وجود مجال لرفع الطاقة الاستيعابية في الاقتصاد، وبالتالي توفير وظائف جديدة (للذكور والإناث) تخص مفهوم منحنى فيليبس، نسبة إلى الاقتصادي النيوزيلندي ويليم فيليبس الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، التي يشير فيها إلى العلاقة بين التضخم والبطالة، وأن علاج البطالة ورفع مستوى التوظيف يتم من خلال رفع مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد حساب ارتفاع مستوى التضخم. أي أن فيليبس يقول إنه بالإمكان خفض معدل البطالة ولكن على حساب ارتفاع في معدل التضخم. وبما أن معدل التضخم لدينا لا يزال منخفضا إلى حد كبير، فلا خوف (نظريا) من رفع الطلب الكلي دون الوقوع في أزمة تضخم حاد.
وبغض النظر عما يمكن عمله لخفض مستوى البطالة، وبغض النظر عما إذا كانت بطالة الذكور معقولة أم لا، هل بالفعل يمكننا القول إن نسبة 6,1 في المائة بين الرجال السعوديين تعود إلى ما يعرف بالبطالة الطبيعية؟ حاليا في الولايات المتحدة، يعتمد البنك المركزي (مجلس الاحتياطي الفيدرالي) نسبة البطالة الطبيعية ما بين 5,2 إلى 5,6 في المائة في الاقتصاد الأمريكي، وهو الاقتصاد الذي يعاني أخيرا عديدا من المشكلات الاقتصادية نتيجة الأزمة المالية، فهل لنا أن نقول إن نسبة 6,1 في المائة بطالة طبيعية في الاقتصاد السعودي القوي؟
هناك تحسن طفيف في مستوى النسبة الرسمية للبطالة بين الذكور السعوديين، حيث إن متوسطها خلال الـ 14 عاما الماضية كان نحو 7,3 في المائة، وبدأت تنخفض من أعلى نسبة لها في عام 2006 حين بلغت 9,1 في المائة. المشكلة في أرقام البطالة بشكل عام أنها عرضة للنقد والتشكيك نتيجة طريقة حسابها التي تستثني عدة طبقات من المجتمع، بالرغم من أنهم فعليا يعتبرون عاطلين عن العمل، وهذا الخلل في طريقة احتساب البطالة موجود في جميع الدول، غير أنه يأخذ بعدا آخر أكثر حدة لدينا في المملكة. فالعاطل عن العمل هو الشخص الذي ليس لديه وظيفة حاليا، ولكنه بحث عن وظيفة بشكل فعال خلال الأسابيع الأربعة الماضية، من خلال إرسال سيرته الذاتية والتواصل مع أرباب العمل وعمل المقابلات الشخصية. وهذه هي الطريقة المستخدمة في رصد عدد العاطلين، وتتم بعمل استبيانات ميدانية موجهة لشريحة عشوائية مناسبة تقوم بها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات. أكبر خلل في هذه الطريقة أنها تستبعد الذين توقفوا عن البحث بسبب عدم جدوى البحث بالنسبة لهم، فيظهر عدد العاطلين لدينا أقل من الواقع. كما أن جزءا كبيرا من التوظيف في السنتين الأخيرتين يعد من أنواع التوظيف الوهمي، أو في أفضل الحالات التوظيف المتواضع underemployment، وهو حصول الشخص على وظيفة أقل من المستوى المطلوب من باب الحاجة.
إذا من الصعب علينا القبول بفكرة أن البطالة لدينا طبيعية، ونحن ندرك جوانب القصور في معالجة المشكلة، ونتمسك بالإحصاءات الرسمية ونغمض أعيننا عن الواقع المشاهد، الذي نرى فيه نسبة عالية من الباحثين عن العمل من كلا الجنسين. أما بطالة الإناث فهي قضية كبيرة بحد ذاتها، بل كارثة كبيرة لعلي أجد الفرصة للتطرق إليها في مقال قادم.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734