الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عقد السلم من العقود القديمة جدا التي عمل بها الناس منذ ما قبل الإسلام. وكان أهل المدينة يستخدمونه في تمويل الإنتاج الزراعي. فقد روى البخاري عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما
– قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ وهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمارِ السَّنَتَيْنِ والثَّلاثَ، فقالَ: أسْلِفُوا في الثِّمارِ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ، وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ الوَلِيدِ: حَدَّثَنا سُفْيانُ، حَدَّثَنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ، وقالَ: في كَيْلٍ مَعْلُومٍ، ووَزْنٍ مَعْلُومٍ.
أي أن مدة عقد السلم في ذلك الوقت كانت تصل الى ثلاث سنوات. وهذا يدل على عقود مستقرة واقتصاد مزدهر. وقد تعرضت لأحكام العقد كل المدارس الفقهية الإسلامية. يتميز عقد السلم عن بقية عقود المعاوضات بأنه عقد تمويل وبيع في وقت واحد. إذ أن من شروط السلم أن يدفع الثمن كاملا عند العقد. وهذا فارق جوهري بين عقد السلم وعقود المستقبليات في الأسواق المالية اليوم والتي لا تشترط دفع الثمن كاملا. لا بل ربما كان تقابض البدلين مؤجلا الى تاريخ لاحق للعقد. أي أنه في عقد السلم يجري تمويل الإنتاج وبيعه في صفقة واحدة. ولا أعرف عقدا آخر يجمع هاتين المزيتين معا وفي عقد واحد سوى عقد السلم! يسعى المشتري في عقد السلم لأن يتحوط من ارتفاع السعر مستقبلا ويحتاط لنفسه من انقطاع الشيء أو قلته ثانيا. أما البائع فهو يضمن تمويل نفقاته أو بعضها من ناحية كما يضمن تصريف انتاجه وبسعر محدد سلفا من ناحية أخرى. وهو بذلك يتحوط من انخفاض الأسعار مستقبلا. ولكن المشتري في عقد السلم يواجه مخاطرتين أخريين: أولهما مخاطرة عدم قدرة البائع على تسليم المبيع كله أو بعضه. والثانية هي مخاطرة السيولة. إذ قد يحتاج المشتري إلى سيولة قبل حلول أجل تسليم ما أشترى وهذا يدعوه الى الخروج من العقد إن استطاع الى ذلك سبيلا. ولا سبيل الى ذلك إلا بأن يقيله البائع من العقد ويرد اليه ما دفع. وهذا غالبا ما يكون صعبا جدا. أما السبيل الآخر فهو أن يقوم المشتري ببيع العقد على آخر. وقد اختلف الفقهاء قديما في جواز ذلك. فقد منعه الأحناف والشافعية والحنابلة وأجازه المالكية. وقد مالت المجامع الفقهية في الحديث الى رأي الأغلبية في القديم. فقد ورد في المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية “سند المنع من بيع السلم فيه قبل قبضه أنه من قبيل بيع الدين الممنوع شرعا. ص.289. ط. 2017” ووجاهة المنع تنبع من أن تداول عقد السلم قبل قبضه يمكن أن يؤدي الى سلسلة من القضايا بعدد من تداولوه إذا عجز البائع الأول عن تسليم المبيع.
وقد رأى بعض الفقهاء المحدثين في السلم الموازي مخرجا من ذلك. وهذا يعيبه أنه لا يمكن تطبيقه الا على نطاق ضيق جدا. وذلك لأنه لا يتصور وجود سلسلة طويلة من عقود السلم المتوازية مبنية على عقد أصلي واحد. ولأنه لو حدث وأن عجز البائع الأول عن تسليم المبيع فستنشأ سلسلة من القضايا والمطالبات بين المتبايعين شبيهة بما يمكن أن يحدث من تداول عقد واحد. هذه الموانع الشرعية والمخاطر التي تكتنف عقد السلم تحد من استخدامه على نطاق واسع في الوقت الحاضر، وتمنع من تداوله في أسواق مالية منظمة.
ونحن نزعم عن ثقة أن هناك مخرجا لذلك بناء على قواعد الشرع الشريف، بحيث يمكن هيكلة العقد وتنميطه وتداوله في الأسواق المالية جنبا الى جنب مع الأوراق المالية الأخرى. وهذا من شأنه تعميق سوق المنتجات المالية الإسلامية من ناحية وتوفير أداة مالية أخرى لتمويل الشركات والحكومات وتوفير أداة مالية إسلامية جديدة لإدارة فائض السيولة لدى البنوك والشركات والأفراد. في الوضع الحالي لا يمكن من الناحية العملية استخدام عقد السلم الا في التمويل قصير الأجل. أما إذا جرى تداول العقد على نطاق واسع وفي أسواق مالية منظمة فاني لا أجد ما يمنع من استخدامه في تمويل النفقات الرأسمالية طويلة الأمد. ومن ميزات عقد السلم أنه عقد لا ترد عليه الشبه الواردة على بعض العقود الحادثة كعقدي المرابحة والتورق. لا بل أنه عقد لا شبهة فيه مطلقا. يستبدل المتبايعان في عقد السلم دينا عينيا بدين نقدي. وإذا انتشر العمل بهذا العقد فإن من شأنه أن يساعد العالم على التخلص من ربقة الديون النقدية وسيساعد على استقرار اقتصاد الدول والشركات.
قليلة هي البلدان التي يوجد فيها تطبيقات لعقد السلم ومنها نيجيريا وماليزيا والبحرين. على أن أوسع تطبيق له فيما أعلم كان في السودان. إذ أصدر السودان قانونا لتنظيم عقد السلم عام 1984، ولكن لم يبدأ تطبيقه على نطاق واسع الا عام 1990 -1991 عندما ألزم البنك المركزي للسودان في حينه البنوك السودانية بتخصيص 50% من قروضها لتمويل القطاع الزراعي. وقد بلغت نسبة مساهمة عقد السلم ذروتها عند 66% من مجمل تمويل القطاع الزراعي في عام 1990-1991. ولكن يبدو أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تعرض لها البلد الشقيق حالت دون الاستفادة القصوى من هذا العقد العظيم. ولكن في تجربة السودان دروسا مهمة ليس مجال بسطها هنا. على أنه من المهم أن أشير هنا إلى أنه لا يوجد في أي من هذه البلدان تداول لعقد السلم في سوق مالية منظمة. ترى كم يبلغ الحجم المحتمل لسوق السلم في عالم اليوم؟ والجواب هو سوق بحجم ما هنالك من سلع وخدمات!!
قال أبو عمر:
إن في الشريعة لكنوزا لا ينقضي منها العجب
تقتضي علما وفهما ويقينا لا يزعزعه الوصب
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال