الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كشف وزير الطاقة المهندس خالد الفالح قبل أيام قليلة أن إنتاج بلادنا من النفط هبط إلى 10.7 مليون برميل يوميا في ديسمبر، من مستويات 11 مليون برميل يوميا في نوفمبر، متوقعا أن يتراجع الإنتاج إلى 10.2 مليون برميل يوميا في يناير المقبل. أي بنسبة خفض تقارب 7%. ومعروف لدى الأخوة القراء أن دول أوبك ومنتجين آخرين وعلى رأسهم روسيا توصلت في الجمعة 7 ديسمبر إلى اتفاق على خفض إنتاج النفط لمدة ستة شهور تبدأ من أول يناير 2019. ومعلوم أن أسعار النفط ارتفعت فور الإعلان عن الاتفاق.
السؤال التالي: هل هذا الخفض وما تبعه من ارتفاع لأسعار النفط نعمة أم نقمة على الاقتصاد من واقع بيانات الناتج المحلي لدولة نفطية كبلادنا حيث تشكل صادراتها من النفط جزءا كبيرا من دخلها ومن إيرادات ماليتها العامة؟
بيانات الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية تقول أنه نعمة ولكن بياناته بالأسعار الثابتة تقول أنه نقمة. ولغير المتخصصين، خصصت في نهاية هذا المقال ملحقا لشرح معنى أسعار جارية وأسعار ثابتة.
يعد الناتج المحلي الاجمالي أشهر مؤشر ودليل على قياس مستوى المعيشة. لكنني أحب التأكيد على أن هذا المقال لا يستهدف مناقشة هذه الدلالة الشائعة. بل هدف المقال بيان أن حركة الناتج صعودا وهبوطا بالأسعار الثابتة على المدى القصير إلى المتوسط أي خلال شهور إلى سنوات قليلة، لا تعكس حركة الاقتصاد كما يراها الناس وبصورة واضحة، وخاصة على المدى القصير إلى المتوسط، مما يعني وجود مشكلة في طريقة احتساب الناتج بالأسعار الثابتة. وهذه المشكلة ليست خاصة في الاقتصاد السعودي، بل حتى في غيرها من الدول المعتمدة على تصدير النفط. ومطلوب توضيح المشكلة، ومعرفة كيف وقعت وما يرى من حل.
كيف كان نمو اقتصادنا الوطني خلال السنوات الثلاث الماضية، أي منذ انتهاء الطفرة السابقة عام 2014؟ مر اقتصادنا الوطني بحالة بين ركود وانكماش عامي 2015 و2016 وبعض 2017. وبدأ في التحسن والنمو من أواخر عام 2017. هذا التوصيف هو ما يراه الناس بمختلف مستوياتهم وخلفياتهم. السؤال التالي كيف أظهرت هذه الأوضاع أرقام الهيئة العامة للإحصاء عن الناتج المحلي الاجمالي؟ الجواب أن أرقام الناتج بالأسعار الجارية تتفق مع ما رآه الناس، ولكنها بالأسعار الثابتة لا تتفق. ودليلي أرقام السنوات الأربع الماضية.
بلغ الناتج بالأسعار الجارية 2836 مليار ريال عام 2014 ونزل إلى 2454 عام 2015، وإلى 2419 عام 2016. ثم عاود الارتفاع ليصل إلى 2575 مليار ريال عام 2017. وهذا متفق مع ما رآه الناس.
ماذا بشأن الأسعار الثابتة؟ تقول بيانات أو أرقام الهيئة العكس. نما الناتج خلال عامي 2015 وعام 2016، لكنه انخفض عام 2017.وهذا عكس ما يراه الناس. وستتكرر المشكلة في بيانات الأرباع القادمة بسبب خفض إنتاجنا النفطي.
استعراض لأحداث قريبة
كانت أسعار النفط عالميا أي أسعار التصدير تدور حول 100 دولار تقريبا للبرميل أواسط عام 2014. ارتفاع الأسعار أغرى بزيادة العرض عالميا بما يفوق الطلب العالمي. والنتيجة بدء موجة نزول في أسعار النفط، حتى وصلت بين 40 و50 دولارا في مطلع عام 2017. وتبعا لنزول الأسعار، وبسبب قوة اعتماد اقتصادنا على دخل النفط المصدر، فقد شهد اقتصادنا شيئا من الانكماش الاقتصادي عامي 2015 و2016. وهو انكماش بانت للناس بمختلف فئاتهم وخلفياتهم آثاره في مظاهر ونشاطات عديدة. وطبعا كان على الدول المصدرة التدخل للحد من هذه الأوضاع، فاتفقت أواسط عام 2017 على خفض الانتاج النفطي، للحد من فائض العرض. أخذت أسعار النفط بالارتفاع، حتى وصلت حاليا إلى مستويات تدور حول 60 دولارا للبرميل.
مع خفض الانتاج ارتفعت أسعار صادراتنا من النفط كثيرا، فزادت إيرادات الدولة كثيرا، فقل العجز في الميزانية، وزاد الانفاق العام زيادة كبيرة. ثم ماذا؟ عودة النمو للاقتصاد، بعد عامين من الانكماش. وينبغي أن يفهم أن خفض الانتاج ليس السبب الوحيد في ارتفاع الأسعار. ولكنه السبب الذي يهمنا في هذا المقال.
السؤال التالي: هل انسجمت أو توافقت الأوضاع السابقة مع حسابات الناتج المحلي الاجمالي عامة وحسابات الناتج المحلي لقطاع النفط خاصة بالأسعار الثابتة؟
الجواب لا. ذلك أن خفض الانتاج النفطي أواسط 2017 يعني أن الناتج المحلي الاجمالي لقطاع النفط انخفض، لأنه أصلا يقاس مع تجاهل تام لتغير الأسعار، حيث يفترض ثبوتها، ولذا سمي الناتج بالأسعار الثابتة. وطبعا قطاع النفط كبير ومن ثم فانخفاضه يخفض بوضوح أرقام الناتج المحلي كله. والنتيجة إعطاء أرقام عن حالة الاقتصاد ونموه خلاف الواقع، خلاف ما يراه ويشعر به الناس.
لا ملامة على الهيئة العامة للإحصاء. ذلك أن الطريقة السائدة المتبعة لدينا في احتساب الناتج المحلي لم نخترعها بل هي عالمية مطبقة في الدول الأخرى. مشكلتها أنها بنيت على اعتبارات تجعل قياس الناتج المحلي بالأسعار الثابتة لقطاع النفط، وفي دولة مصدرة له، لا يعكس وضع الاقتصاد عامة، رغم قوة أهمية قطاع النفط وقوة أهمية النفط المصدر. والنتيجة أنها تجعلها مضللة في فهم طبيعة وتأثير نمو الناتج المحلي الحقيقي النفطي، وخاصة على المدى المتوسط، لبلادنا، ولكل دولة تشكل صادراتها النفطية نسبة كبيرة من إنتاجها النفطي. وحسابات الناتج المحلي للأعوام الثلاثة الماضية توضح المشكلة.
باختصار، كان نمو الاقتصاد في السنوات الثلاث الماضية بالأسعار الجارية معاكسا لنموه بالأسعار الثابتة. ولكن نموه بالأسعار الجارية هو الأقرب للواقع الذي يلمسه الناس.
حركة النمو السابقة المتعاكسة أعطت صورة غير طبيعية. ذلك أنالأصل أن اقتصاد كل دولة (وخاصة من دول مجموعة العشرين) ينمو بالأسعار الجارية والأسعار الثابتة معا، ولا يخل بذلك كون نموه بالجارية طبعا أعلى من الثابتة.
إذا اتضحت المشكلة، فالسؤال التالي: ما الحل؟
ينبغي على الهيئة العامة للإحصاء أن تفكر جليا في الموضوع. ومن ضمن ما يطرح للحل أن يفرق بين الانتاج الذاهب للاستهلاك المحلي وما يصدر أي يباع خارجيا بالدولار. أرى تعديل حساب الناتج المحلي بالأسعار الثابتة لقطاع النفط. وأساس هذا التعديل إما مراعاة تغير الدخل من التصدير، أو تجاهل خفض الانتاج المصدر طالما لم يترتب على هذا الخفض أي تأثير سلبي على الاقتصاد المحلي مثل بطالة بسبب خفض الإنتاج أو انخفاض قيمة الصادارات النفطية. ومن ثم أرى أن تنتج الهيئة إحصاءات بما يسمى الناتج المحلي الاجمالي المعدل بالأسعار الثابتة، وبالله التوفيق.
ملحق
توضيح معنى أسعار جارية current prices وأسعار ثابتة constant prices وهي موجهة لغير المتخصصين:
فكرة الأسعار الثابتة تعني تجاهل ما حدث من تغير للأسعار، والتركيز فقط على معرفة التغير في حجم الانتاج. وأرجو أن يوضح المثال التالي هذه النقطة لغير المتخصصين.
نفترض أن مبيعات مصنع بلغت 100 مليون ريال في عام. وأنها بلغت في العام الذي يليه 110 مليون ريال. هل نستطيع أن نقول أن إنتاج المصنع أو أرباحه زادت 10%؟ لا لا نستطيع الجزم بذلك، نظر لوجود عوامل تغير الأسعار (التضخم) والتكاليف. مثلا، قد تزيد الأسعار بنسبة تساوي أو تقل أو تزيد عن التغير في إنتاج المصنع، أو مبيعاته. ومن ثم يحتمل حصول زيادة أو عدم حصول أي زيادة في الانتاج أو الربح.
قد لا يتغير حجم الانتاج، ولكن يحصل ارتفاع أو انخفاض في الأسعار وتبعا في المبيعات. وقد ينخفض حجم الانتاج وترتفع الأسعار، والمبيعات والأرباح. وقد وقد فالاحتمالات كثيرة.
لنفترض أن إنتاج المصنع انخفض 10% وأن أسعار ما ينتجه ارتفعت 50%؟ ولنفترض أن التكاليف لم ترتفع تقريبا. من الواضح أن دخل المصنع من المبيعات زاد قرابة النصف، رغم انخفاض الانتاج 10%.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال