الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تطرقنا في مقالات سابقة إلى استعراض جوانب النشأة و التطوّر لمفهوم الحوكمة من خلال مقال (مفهوم الحوكمة .. النشأة و التطور)، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على التعريفات المتعددة للحوكمة وأبرز مبادئها و معاييرها و أهدافها من خلال مقال (مفهوم الحوكمة .. التعريف والمبادئ)، مستندين في ذلك على المرجعيات المعتمدة التي أخذت على عاتقها الاستثمار في تطوير هذا المفهوم وصيانته من خلال بحوثها و تقاريرها وقدراتها العلمية و البحثية المعدّة لهذا الشأن مثل (مجلس العموم البريطاني، و مؤسسة التمويل الدولية (IFC) ، ومنظمة التعاون الاقتصادي و التنمية (OECD)، ومعهد المديرين في جنوب أفريقيا (IoDSA)، و معهد المدققين الداخليين (IIA)، و الإتحاد الدولي للمحاسبيين (IFAC)، وغيرها من الجهات التي تبنت هذا المفهوم وأصبحت مرجعاً مهماً له).
وامتداداً لهذا التسلسل فنود إلقاء الضوء في هذا المقال على أبرز المؤثرين و المتأثرين على مفهوم الحوكمة و تطبيقاته، لاسيما وأنهم الأساس في وجود الحاجة لنشأة هذا المفهوم وتطوره، والذين يطلق عليهم مصطلح (أصحاب المصلحة Stakeholders). حيث لاقى هذا المفهوم رواجاً و أولي زخماً كبيراً في أوساط المفكرين و المهتمين في مختلف المجالات كالمجال السياسي و صناعة الأعمال و الاقتصاد وصناعة الرأي والتأثير و التخطيط الاستراتيجي، والحوكمة إحدى تلك المجالات التي مسها هذا الاهتمام وأرعت له نصيبه من البحث و التحليل. وفي عالم الأعمال كان الإهتمام في السابق مناط بالملّاك وحملة الأسهم (Shareholders) وكانت الخطط و التنظيمات الداخلية و العلاقات الخارجية تتمحور حولهم، ولكن مع بروز مفهوم أصحاب المصلحة (Stakeholders) وبيان أثرها الإيجابي على مستوى الربح و النمو والتطور، فقد توسعت دائرة الإهتمام لتنصب حول هذه الدائرة الأشمل.
ويرى بعض الباحثين بأن جذور مفهوم أصحاب المصلحة نشأت من ضمن أعمال عالم الاقتصاد الأسكتلندي (آدم سميث Adam Smith) (1759م)، وكذلك عام (1932م) عبر كتاب (The Modern Corporation and Private Property) لمؤلفيه عالمي الإقتصاد الأمريكيين (أدولف بيرلي Adolf A. Berle) و (قاردينر مينز Gardiner Means). في حين يعد أول ظهور لهذا المفهوم كان في عام (1963م) من خلال وروده في مذكرة داخلية تعود لمؤسسة ستانفورد للأبحاث (Stanford Research Institute) حيث جاء في تعريف هذا المفهوم بأنه (تلك المجموعة التي لولا دعمها لما عاد للشركة وجود) ، و فيما بعد قام بروفيسور إدارة الأعمال إدوارد فريمان (R. Edward Freeman) في ثمانينيات القرن العشرين بتطوير هذا المفهوم والذي أسس منه نظرية عرفت بنظرية أصحاب المصلحة (Stakeholder Theory) إذ عرّفه بأنه (الجماعات أو الأفراد أو المنظمات التي يمكن أن تؤثر أو تتأ ّثر بإنجازات وأهداف المنظمة).
فأصحاب المصلحة يمكن النظر لهم من نواحي متعددة كما يمكن تصنيفهم إلى (مجموعات) وفي المقابل يتم إلقاء الضوء على (العلاقات) التي تربطهم بالمنظمة، وكذلك تقاس درجة (التأثير) لتلك المجموعات، والتي تمهد الطريق نحو عملية (التحليل) واقتراح (الأساليب) المناسبة للتعاطي معها آخذةً في الإعتبار (نوعية المصلحة من حيث التطلعات و المساهمة في خلق القيمة) وبيان (نقاط الالتقاء و التعارض) بينها.
والأهم في ذلك كلّه هو (التطبيق) المراد تنفيذه تجاه تلك المجموعات، حيث تتنوع الأغراض التي تكون هي المحور و المنطلق الذي تصمم بناءً عليه (التصنيف، والعلاقات، والتأثير، والتحليل، والأساليب، ونوعية المصلحة، ونقاط الالتقاء و التعارض). فالأغراض تأخذ أشكالاً متعددة فقد تكون (لغرض التحطيط الاستراتيجي لأهداف المنظمة، وقد تكون لأغراض التوسع أو الإندماج أو النمو، أو لأغراض التطوير التنظيمي، أو لأغراض الجودة و الكفاءة و افعالية، كما قد تكون لأغراض التخارج و التصفية، وقد تكون لأغراض الحوكمة وهذا الغرض هو محور هذا المقال).
فمن حيث (تصنيف المجموعات) فقد تعددت النماذج لتأخذ أشكالاً متنوعة وكما أسلفنا فهو يعتمد على الغرض الذي يتم النظر لأصحاب المصلحة من أجله.
فمن التصنيفات لأصحاب المصلحة (أساس المستوى (المجموعات الرئيسية) و ( المجموعات الأخرى) حيث أن المجموعات (الرئيسية) تضم الفئات التي لها علاقة مميزة و حاسمة مع المنظمة تجاه تحقيق أهدافها وتشمل (المساهمين / مجلس الإدارة / الإدارة التنفيذية / الموظفين / العملاء / الموردين) بينما تشمل فئة أصحاب المصلحة الآخرين (المنافسين / الجهات الحكومية / الدائنين / المنظمات غير الحكومية / المجتمع).
أحد التصنيفات الأخرى جائت على أساس موقع المجموعة (داخلياً و خارجياً) فأصحاب المصلحة الداخليين تشمل (الملّاك و الإدارة و الموظفين) بينما تشمل فئة أصحاب المصلحة الخارجيين كلاً من (المقرضين، والمؤسسات الحكومية، والعملاء، والموردين، والمجتمع).
ومن التصنيفات كذلك لمجموعات أصحاب المصلحة مايكون على أساس الصفة من حيث (الشرعية و السلطة والضرورة الملحّة) فيتم تقسيم الفئات إلى (الفئة الكامنة) وتشمل (أصحاب المصلحة الساكنين / وأصحاب المصلحة التقديريين / و أصحاب المصلحة المطالبين) والفئة الأخرى في (الفئة المترقبة) وتشمل (أصحاب المصلحة المهيمنين / أصحاب المصلحة التابعين / أصحاب المصلحة الخطيرين) والفئة الثالثة هي (الفئة الحاسمة) وهذا الصنف من أصحاب المصلحة يملك الصفات الثلاث (الشرعية و السلطة والضرورة الملحّة).
ومن حيث المصالح ذاتها فهي تنسحب تباعاً مع نوعية الفئة ذاتها فالملاك وحملة الأسهم تكون مصالحهم و تطلعاتهم منصبة حول (توزيعات الأرباح والرفع من قيمة السهم وانخفاض التكاليف وتعظيم الثروة) في حين أن مساهمتهم في خلق القيمة للمنظمة تتمحور حول (رسم التوجهات الاستراتيجية و صيانة رأس المال و التقليل من خطر الديون).
بينما تكون مصالح الإدارة والموظفين متجهة نحو (التعويضات و المكافآت و الأمن الوظيفي) في حين تكون مساهمتهم نحو (العمل والانتاج من خلال صناعة القرارات و تنفيذها).
أما العملاء فإن مصالحهم تتجه نحو (الجودة، و الخدمات، والأسعار) في حين تكون مساهمتهم عبر (الولاء، و تحسين السمعة، و الاستمرار).
أما الموردون فإن مصلحتهم تنصب حول (الإبقاء على علاقة توريد مستقرة ومستدامة ورفع هامش الربح واكتساب المزيد من المناقصات) ويبرز اسهامهم حول (الكفاءة، و انتظام مواعيد التسليم وسلامة المنتجات وكفاءة الخدمات).
في حين ترتكز مصلحة الجهات الحكومية حول (الإمتثال ، واتباع القوانين، والمساهمة في الاقتصاد المحلي، والمساهمة في معضلة البطالة، والجباية) في حين تبرز اسهاماتها من خلال (تعزيز المناخ التجاري و الاستثماري، والترخيص والاعتماد، والدعم بسياسات الاقتصاد الكلي).
وبالنسبة للمجتمع لاسيما المحلي فهو يروم مصلحته في المنظمة من خلال (احترام القيم، المسؤولية المجتمعية، الشفافية، الرفاة) و تتنوع إسهاماته عبر (الدعم و التأييد والنقد البناء).
وهناك نماذج متعددة للقيام بعملية تحليل أصحاب المصلحة والتي من خلالها يمكن رصد التنبؤات و اقتراح الإجراءات ونوعيتها حين التعاطي مع كل فئة على حدة، ومن أمثلة تلك النماذج مايعرف بإسم (مصفوفة مندلو Mendelow Matrix) والتي تعتمد على تصنية أصحاب المصلحة حسب (درجة التأثير) و (درجة الإهتمام) من حيث الضعف و القوة و الإرتفاع و الإنخفاض وبناءً عليه يتم اقتراح الإجراءات المراد عملها.
ويتضح من أشكال المصالح المتنوعة في أن هناك نقطة إلتقاء تجتمع فيها كلها ألا وهي (استمرار المنظمة و نموها) وفي المقابل وعند النظر لكل مصلحة على حدة نجد أنها تشكل قطباً منفرداً يتعارض مع الأقطاب الأخرى في عدد من النواحي، فانخفاض التكاليف مع تعظيم الثروة بالنسبة للملّاك يتعارض مع زيادة المكافآت والتعويضات حسبما يطمح إليه الموظفين ويتعارض مع رفع تكلفة عقود الموردين وكذلك مع خفض الأسعار بالنسبة للعملاء. فكيف يمكن لمفهوم الحوكمة أن يجمع الأقطاب المتنافرة في دائرة واحدة؟
قد أجاب على هذا التساؤل العالم الاقتصادي الأمريكي (يوجين فاما Eugene Fama) (1980م) بأن الحل الذي يمكن من خلاله التغلب على مشكلة التعارض هو أن تتخلى المنظمة (على المدى القصير) عن هدف (التعظيم للثروة) والاكتفاء بتحقيق زيادة مرضية بما يتيح الفرصة للأطراف الأخرى للمشاركة في تلك الثروة؟، حيث أن هذه (المشاركة) هي ذاتها المصدر الذي يخلق العجلة ويفجر الطاقات و ينهض بالقدرات مما يمكّن المنظمة من الحصول على مبتغاها على هدفها على المدى الطويل. فالأطراف الأخرى (غير الملّاك) التي شاركت في تلك الثروة، ستبذل جهداً مضاعفاً لتعظيم تلك الثروة طالما سيكون لها نصيب مستدام منها، في حين لو أغفلت المنظمة تلك المصالح وركزت على مصلحة طرف وحيد فقد يكون من شأنه خلق تحديات و معضلات أمام استمرارها و نموها.
كما تجدر الإشارة إلى أن (المصلحة أو المصالح) من وجهة نظر أصحابها ليست دوماً ذات جانب (نفعية) مثل (تعظيم الثروة، زيادة المكافئات و التعويضات، تكرار عقود التوريد، الرفاهية، توفير فرص عمل، تقديم خدمة مجتمعية، الإستدامة، النمو، إلخ…)، وإنما تمتد أيضاً إلى جانب (درء للمخاطر) مثل (خسائر فادحة، إقصاء قسري من السوق، إستبعاد غير مبرر من منافسة، حرمان من مكافأة، فقدان وظيفة، تشويه للقيم والثقافات المجتمعية، إلخ…)، لذا جآت الحوكمة في مفهومها ومبادئها لتعالج هذه التطلعات و الإحترازات من خلال إرساء مبادئ (الشفافية، والمسؤولية، والمساءلة، والعدالة) عبر منظومة من المعايير و القواعد التي تضمن حفظ حقوق جميع المساهمين لاسيما الصغار و الأقلية، و مراقبة خاصة لمراكز المخاطر في المواقع التي يتصاعد فيها تضارب المصالح، صيانة الحوافز المالية للموظفين التي تحقق العمل بطريقة سليمة، وضمان توافر الفرص وعدالة التوزيع وتمكين الجميع من ذوي الكفاءة والجدارة أفراداً كانوا أو منظمات، الأمر الذي من شأنه خلق منصّة ضامنة لتحقيق العدالة والشفافية وضمان حق المساءلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال