الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
السياسات الاقتصادية تتغير حسب ظروف الاقتصادات القومية الخاصة وحالة الاقتصاد العالمي، وقد تكون مناسبة لتلك المرحلة وقد لا تكون مناسبة. لكن بالتأكيد أن لكل أنظمة وسياسات مستفيدين ومتضررين، ومن المؤكد أيضا أن المستفيدين سوف يقاتلون بكل شراسة لحماية مصالحهم، ولن يقبلوا بأي تغيير يؤثر عليها. لكن الحكومات تعمل على جعل المصلحة العليا للأمة فوق مصالح الأفراد، وحتى بعض الفئات من المجتمع التي ينبغي أن تكيّف مصالحها بما يتوافق مع التغيرات الجديدة التي تخدم الجميع.
السياسات العمالية التي كانت تنتهجها السعودية تعتمد على الحصول على عمالة بأقل تكاليف ممكنة، وذلك لمتطلبات التنمية أولا، ولضعف القطاع الخاص ثانيا، ولقلة أعداد السعوديين الذين يمكنهم ملء الفراغ في المهن المطلوبة ثالثا.
وقد نجحت تلك السياسة في تسريع التنمية، وتشجيع القطاع الخاص تحديدا على التوسع والنمو. لكنها في الوقت نفسه ونتيجة لضعف السياسات التنظيمية والرقابية والفساد أدت إلى مشاكل كبيرة أوصلتنا إلى ما نعيشه الأن في سوق العمل.
حيث تتدفق أعداد هائلة من العمالة الرديئة وغير الماهرة ومن أقل الطبقات تعلما في بلدانها، مما نتج عنه تكون قوى عمالية كبيرة سيطرت على سوق العمل في جميع المهن بدون استثناء. ولأن العمالة الرخيصة يغلب عليها ضعف المهارات فقد كانت سببا مباشرا في تردي الخدمات المقدمة، خصوصا في العشرين سنة الأخيرة. والأخطر أن تلك الأعداد الهائلة من البشر غيرت شكل التركيبة السكانية في المجتمع، حتى أصبحت تقارب النصف من عدد السكان في بعض المدن. ونقلت معها كل عاداتها وتقاليدها وأنماط حياتها، وهو الذي غير في حياة وثقافة المجتمع بشكل كبير إيجابا وسلبا، والجانب السلبي هو الغالب.
لكن الأثر الاقتصادي السلبي من وجود العمالة الرخيصة أصبح يفوق الأثر الإيجابي مقارنة بما كان في السابق، فبالإضافة لما ذكرته سابقا استنزفت تلك القوى البشرية الموارد القومية والبنية التحتية، وزاحمت المواطنين في جميع الخدمات الحكومية المجانية، دون عطاء يوازي ذلك الاستنزاف وتلك المزاحمة، خصوصا من طبقة الموظفين في المستويات المتوسطة، وأصحاب المهارات البسيطة.
الإشكالية الأكبر التي نتجت عن تلك السياسات أن الاقتصاد تعود على العمالة الرخيصة ولم يعد قادرا أو بالأصح لم يعد راغبا في عمالة غالية ذات مهارات عالية وإنتاج أكثر كفاءة وجودة. وهذا أدى بشكل مباشر إلى إخراج العمالة الجيدة من سوق العمل السعودي، فكثير من الأطباء والمهندسين والعمال الماهرين ترك السوق لهذا السبب. لكن الأكثر سوءا أنها أدت إلى تكون بطالة من العمالة السعودية كبيرة جدا بكل المقاييس في كافة المهن، وأصبح الاقتصاد عاجزا عن استيعابهم مع وجود تلك العمالة الرخيصة.
جاءت رؤية السعودية 2030 لتفتح باب الأمل لتصحيح أخطاء السياسات الاقتصادية التي سببت تلك المشاكل، ومن ذلك رفع تكاليف استقدام العمالة من خلال الضرائب والرسوم المختلفة، بهدف خفض تدفق العمالة الرخيصة والسماح للعمالة السعودية لدخول سوق العمل بدرجة أقل من المنافسة غير العادلة مع العمالة الوافدة.
رغم عدم وضوح النتائج الإيجابية لتلك للسياسات الاقتصادية الجديدة حتى الأن، كونها لم تأخذ حقها في التطبيق بعد، لكن من المؤكد أن تلك الآثار سوف تظهر في السنوات القادمة، خصوصا إذا دعمت بسياسات أخرى تتعلق بشروط التعاقد والعمل.
المؤسف أننا بدأنا نسمع الحديث عن التراجع عن سياسة فرض رسوم على الوافدين، لمح لذلك وزيري العمل والتجارة. وإن كان ما فهمناه صحيحا فإنه خطأ فادح برأيي. نعم ظهرت بعض الأثار الضارة لتلك الرسوم وهو المتوقع في كل نظام جديد أن يكون له ضحايا، لكن النتائج الإيجابية المتوقعة للاستمرار في تطبيق النظام تفوق قطعا الاثار السلبية الحاصلة الأن.
تهدف الرؤية إلى تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع عامل، والاقتصاد إلى اقتصاد منتج، ورفع مستوى الرفاه بين أفراد المجتمع، وذلك لن يحدث بالعودة للسياسات القديمة التي اوصلتنا إلى ما نحن عليه الأن. سياسة العمالة الرخيصة مغرية لمشاهدة معدلات نمو مرتفعة باستمرار، لكنها لا تخدم فكرة التنمية المستدامة ورفاه المجتمع، بل لا تخدم النمو ذاته في القريب العاجل، فلم يعد الاقتصاد يستوعب كل هذه الأعداد من العمالة الرخيصة غير المنتجة فعليا، بل إن البطالة بين الوافدين تزداد بشكل سنوي. لذلك لابد من خفض أعداد العمالة الوافدة في سوق العمل السعودي بما لا يقل عن 30٪ خلال الخمس سنوات القادمة. ليس من أجل الاقتصاد فقط بل من أجل المجتمع والأمن والثقافة والصحة واللغة والقيم.
ليس من العدل أن يظل الشباب السعودي المؤهل تحت رحمة شروط رجال الأعمال المدللين، بل ليس من العدل رهن الاقتصاد السعودي لسياسات اقتصادية قديمة تخدم فئة محددة من المجتمع يمكنها بقليل من المرونة التكيف معها والتحول مع المجتمع.
لا يمكننا نقل اقتصادنا إلى مرحلة (نيوم) بواسطة العمالة الرخيصة متدنية الأجر والمهارة، فقط من أجل حماية فئة من التجار لا يرغبون في التخلي عن جزء من أرباحهم، وليس لديهم رغبة في التكيف مع الرؤية. أثبتت سياسات حماية التجار ضررها على الاقتصاد من أيام أدم اسميث، ولن تخدم هذه السياسة الاقتصاد السعودي ولن تنقله إلى أفكار الرؤية.
أتمنى ألا نعود لنقطة الصفر، فالتراجع عن السياسات الاقتصادية المكونة لرؤية السعودية 2030 يعني أن الرؤية ستصبح في مهب الريح، وأن الأحلام التي بناها المجتمع عليها تتحطم في بداياتها، خصوصا أن ذلك التراجع يخدم غير السعوديين أكثر مما يخدم السعوديين.
البطالة خطر كبير، قنبلة على وشك الانفجار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال