الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أحدثت رؤية المملكة 2030 نقلة نوعية للتنمية الاقتصادية في المملكة العربية السعودية على المستويات التخطيطية والتنفيذية وفي الجانب الاهم الا وهو الجانب المالي. وكما هو معلوم فإن رؤية 2030 ارتكزت على ثلاثة مبادئ أساسية وهي (1)مجتمع حيوي، (2)اقتصاد مزدهر، (3)وطن طموح، وقد تضمنت الرؤية عدد من البرامج الهامة لتحقيق هذه المبادئ.
إن البحث عن مكامن الفرص في الاقتصاد الوطني يحتم النظر في الحاجات الملحة لمكوناته وبما يتماشى مع التوجهات العامة والأطر التشريعية لوثيقة الرؤية. وعليه فأنه يجب النظر الى برامج الرؤية كوحدة موضوعية متكاملة ومترابطة تؤثر وتتأثر ببعضها البعض. على سبيل المثال لو نظرنا الى مخرجات برنامج التخصيص فإننا سنجدها تمثل مدخلات لبرامج أخرى في الرؤية كبرنامج التوازن المالي وبرنامج وبرنامج جودة الحياة وغيرهما بشكل او بأخر.
ولعلي هنا اتكلم عن قضية محددة تتعلق بالفوائد التي ستحققها مشاريع المشاركة بين القطاعين العام والخاص (PPP) لبرنامج التوازن المالي وبما يتجاوز الحدود الزمنية لهذا البرنامج ويتعدى ذلك الى تعزيز متانة الاقتصاد الوطني وتنويع مصادره واستدامته.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية اتجهت العديد من الدول الأوروبية إلى بناء شراكات ضخمة بين القطاعين العام والخاص بهدف إعادة الإعمار والاستجابة لمتطلبات التنمية في تلك الدول، وقد نجحت دول مثل المملكة المتحدة وفرنسا في تطوير شراكات ناجحة في هذا المجال الأمر الذي أثمر عنه تنمية حقيقية وتوفير فرص عمل للملايين، فضلا عن إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية.
وبنظرة فاحصة نجد أنه عادةً ما تلجأ الحكومات الى الاستعانة بالقطاع الخاص اإشراكه في المشاريع التنموية في حالة شح السيولة وفي الازمات الاقتصادية، إلا أنه وبمجرد تحسن الوضع الاقتصادي وتوفر النقد لدى الحكومة فإنها تحجم عن اشراك القطاع الخاص وتتولى هي بنفسها عملية التنمية من خلال ما لديها من وفرة مالية.
وهنا في المملكة العربية السعودية نجد أن بوادر رغبة الحكومة في اشراك القطاع الخاص في المشاريع التنموية وتخصيصها قد بدأت منذ عام 2000م تقريباً حيث تم الاعلان عن عزم الدولة تخصيص المؤسسة العامة للخطوط الجوية السعودية، وقد شهدت الفترة اللاحقة لهذا الاعلان عدد من المبادرات والآمال في التوسع في برنامج التخصيص، إلا أنه وبعد الطفرة في اسعار البترول منتصف عام 2008م خفتت هذه الجهود نظراً للمداخيل الهائلة التي مكنت الدولة في الصرف بسخاء على المشاريع التنموية وتقديم الخدمات للمواطنين.
والجديد اليوم في هذا الموضوع أن رؤية المملكة 2030 اكدت على أهمية ومحورية دعم القطاع الخاص واشراكه في التنمية، الامر الذي يطمن المراقبين بأن هذا التوجه ليس مرتبط بتوفر أو شح السيولة لدى الدولة، بل هو نهج ثابت له آلياته وانظمته ومستهدفاته.
تنقسم النفقات في الميزانية العامة للدولة الى نفقات تشغيلية ونفقات رأسمالية. وبحسب بيانات ميزانية عام 2019 م بلغ تقدير حجم اجمالي النفقات حوالي 1.106 مليار ريال، تبلغ النفقات التشغيلية منها 860 مليار ريال وبنمو يبلغ 2.7% ، كما تبلغ النفقات الرأسمالية حوالي 246 مليار ريال بنمو يبلغ متوسطه حوالي 5.9% على المدى المتوسط1).
إن المشاركة بين القطاعين العام والخاص في تنفيذ المشاريع الرأسمالية وتقديم بعض الخدمات العامة يمثل فرصة حقيقية لتخفيف العبء عن الميزانية العامة – هذا العبء الذي ينمو عاماً بعد عام – وكذلك يُمكّن الحكومة من استخدام الوفورات في الانفاق على رفع مستويات المعيشة وإطفاء الدين العام وزيادة الاحتياطيات.
يمثل برنامج تحقيق التوازن المالي الذي أُقرَّ في ديسمبر 2016 م آلية للتخطيط المالي متوسط الأجل، لاستدامة وضع المالية العامة وتحقيق ميزانية متوازنة. حيث يرتكز البرنامج على خمسة محاور رئيسة تتمثل في:-
*رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي.
*تصحيح أسعار الطاقة والمياه.
*تنمية الإيرادات الحكومية الأخرى.
*إعادة توجيه الدعم للمستحقين (برنامج حساب المواطن).
*نمو القطاع الخاص.
وقد وضع البرنامج أهدافاً طموحة تتطلب لتحقيقها تغيراتٍ كبيرةً في السياسة المالية، وقد تم تحديد الركائز الاسراتيجية الأربع التالية:
1- تأسيس مبدأ المسؤولية المالية في جميع الجهات الحكومية، بتخصيص ميزانية تتسق مع الأولويات الاستراتيجية لهذه الجهات، ووضع نظام يشجع على المساءلة والملكية الكاملة للمستهدفات المالية على كافة مستويات الجهة .
2- التخطيط المالي والاقتصادي الكلي، بتوجيه السياسة المالية نحو تحقيق الاستدامة المالية والاقتصادية وتحفيز اتخاذ القرارات الفعالة لإدارة الميزانية مع تقديم صورة متكاملة عن الديون والاحتياطيات.
3- تعظيم الإيرادات للحكومة، بإعداد ملف مبادرات الإيرادات اللازمة لتحقيق أهداف التوازن المالي.
4- رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، بتحسين فعالية المصروفات في الحكومة لتحقيق مستهدفات الموازنة المالية المرغوبة من خلال الاستغلال الأمثل لموارد الدولة2).
وبحسب البيانات المعلنة لبرنامج تحقيق التوازن المالي فإن الدولة وحتى عام 2023 م سوف تتجه لاقتراض حوالي 333 مليار ريال، وسوف يتم السحب من الاحتياطي العام حوالي 192 مليار ريال، أي ان مجموع ما سوف تحتاجه الميزانية لتبلغ التوازن حسب برنامج تحقيق التوازن سوف يكون حوالي 525 مليار ريال.
(2) وثيقة برنامج تحقيق التوازن المالي
وبناءاً على البيانات السابقة فإن ايجاد مصادر لتغطية هذا المبلغ أصبح ضرورة ملحة، لاسيما اذا ما تم استغلال الفرص التي يوفرها اقتصادنا الوطني والتي تمثل مشاريع المشاركة بين القطاعين العام والخاص عنواناً بارزاً في هذا المجال.
ولعله من المناسب في هذا الصدد البدء في إعداد خطة تنفيذية لمشاركة القطاع الخاص في المشاريع التنموية تبدأ بنسبة صغيرة من حجم الانفاق على المشاريع التنموية وتزيد كل عام حتى تصل الى 60% من إجمالي حجم الانفاق، وبما يتوافق مع قدرة وأمكانيات القطاع الخاص.
فلو افترضنا أن حجم الانفاق على المشاريع الرأسمالية والخدمات يبلغ 250 مليار سنوياً وتم إشراك القطاع الخاص فيما قيمته 5% من هذه المشاريع تزيد بنسبة مماثلة كل عام، فإنه وحتى عام 2030 م سوف يبلغ الوفر في النفقات الرأسمالية حوالي 975 مليار ريال، وهو تقريباً ما يمثل ضعف ما تحتاجه الميزانية لتحقق التوازن المالي.
وتتعدد الآثار والفوائد المرجوة من مشاريع المشاركة بين القطاعين العام والخاص، حيث أنها تؤثر في الجوانب التنظيمية والتمويلية والتنفيذية لهذه المشاريع، منها ما هو مباشر وواضح الاثر ومنها ما هو غير مباشر، ويمكن إجمالها فيما يلي:-
*تحقيق قيمة أفضل للنقد مما يخفف من اعباء الإنفاق والتمويل الحكومي، ومشاركة المخاطر مع القطاع الخاص. الامر الذي يمكن الحكومة من تحقيق التوازن المالي للميزانية.
*تمكين وزارة المالية من التخطيط الجيد للتدفقات النقدية للنفقات في الميزانية العامة. وبما يمكنها من استخدام الوفورات النقدية في الصرف على تحسين الوضع المعيشي أو اطفاء الدين العام أو الحد من السحب من الأحتياطيات النقدية.
*إدارة المشاريع التنموية على أسس اقتصادية بما يحقّق المكاسب الاجتماعية والاقتصادية، وصولًا إلى النمو في الناتج المحلي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
*تنشيط الاستثمارات الوطنية، بما تعزيز النمو الاقتصادي الوطني، وتوفير فرص عمل جديدة ومكافحة البطالة.
*جذب الاستثمارات الأجنبية، وتوطينها مما يعزز موقع الاقتصاد الوطني على الخارطة الاستثمارية الدولية، وهذا بدوره سوف يؤثر على التحالفات الاستراتيجية.
*كفاءة التنفيذ وتخفيض التكاليف من خلال الجمع بين الأنشطة المختلفة مثل التصميم والإنشاء ومن خلال المرونة في التعاقد واعتماد التمويل الرأسمالي والكفاءة في اتخاذ القرار، والتطوير والابتكار.
*تعزيز مبادئ الإفصاح والمساءلة في إدارة الموارد الاقتصادية.
وهنا يجب الإدراك أن نجاح المشاركة بين القطاعين العام والخاص في المشاريع التنموية لا بدّ وأن يتمّ بشكل متدرج وبعد دراسة الأهداف التنموية المطلوب تحقيقها من خلال هذه الشراكة، ليس فقط على المستوى الاقتصادي أو تحسين أداء الخدمات العامة فقط، وانما ايضاً من حيث مردود ذلك على التنمية بشكل عام، وعلاقة تلك الشراكة بتحسين الظروف المعيشية للسكان. وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية وضع الانظمة العامة التي تحدّد دور كل شريك في التنمية بما يضمن كفاءة التنسيق والتكامل بين الأطراف جميعًا، وتأسيس النظم التشريعية والمؤسسية اللازمة لإنجاح هذه الشراكة، وتشكيل الأجهزة اللازمة لتنفيذ القواعد والالتزامات الواردة في تلك الانظمة بقدرٍ عالٍ من الكفاءة والنزاهة.
كما أنه من المهم أيضاً التركيز على تمكين القطاع الخاص كطرف محوري وأساسي في الشراكة من أجل التنمية، وكذلك تحرير الأسواق المالية وتطويرها وتهيئتها لجذب المدّخرات الوطنية والأجنبية، وتوظيفها في مجالات الاستثمار في المشروعات التنموية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال