الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم الإدارة الحديثة، ومع تزايد أعداد المستفيدين، كان لا بد للمؤسسات – سواء التجارية أو الخدمية، حكوميةً كانت أم خاصة – من توسيع نطاق خدماتها، وافتتاح فروع جديدة، وزيادة طاقتها الإنتاجية لتلبية احتياجات المستفيدين. وقد أدى هذا التوسع إلى ضرورة التخلي عن المركزية، وتفويض صلاحيات حساسة، مما زاد من تعقيد آليات الإدارة وأضعف الرقابة، مهيئًا بيئة خصبة لانتشار الفساد وتغليب المصالح الخاصة على العامة.
ونتيجة لهذه التحديات، سعى العديد من الملاك وعلماء الإدارة إلى إيجاد طرق تحد من الفساد وتضمن تحقيق تطلعات المعنيين. ومن أبرز هؤلاء العلماء آدم سميث، الذي ناقش في كتابه (ثروة الأمم) عدة نظريات، لعل من أهمها فصل المهام والأجر مقابل الإنتاجية. ثم جاء العالم الآخر فريدريك تيلور، أحد رواد علم الإدارة، ليضع في كتابه (مبادئ الإدارة العلمية) أسس الإدارة الفعالة، بما في ذلك تقسيم العمل، ووضع الوصف الوظيفي، والمراقبة المستمرة للعاملين. واستمر تطور الفكر الإداري حتى تم طرح نظرية الوكالة من قبل الباحثين جينسن وميكلنغ، والتي ركزت على فصل الملكية عن الإدارة.
توضح نظرية الوكالة أن المؤسسات تتكون من ثلاث طبقات إدارية: الملاك أو المساهمون، الذين يمتلكون رأس المال، ومجلس الإدارة، الذي يشرف على الإدارة التنفيذية، والمديرون، الذين يديرون العمليات اليومية ويتخذون القرارات، وهم يمثلون الإدارة التنفيذية. وفي بعض الحالات، قد تتعارض مصالح المديرين مع مصالح الملاك، مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات تخدم المديرين أنفسهم على حساب المؤسسة. وهنا جاء دور الحوكمة، التي تهدف إلى وضع أطر تنظيمية لضمان تصرف المديرين بما يتماشى مع مصالح الملاك والمساهمين، وتعزيز الشفافية، والمساءلة، والعدالة في جميع الإجراءات.
ومن أبرز الجهات التي ساهمت في تطوير معايير الحوكمة عالميًا منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، التي أصدرت عام 1999 مبادئ حوكمة الشركات، والتي أصبحت مرجعًا دوليًا للحكومات والشركات في تحقيق الشفافية، والمساءلة، والعدالة، والاستخدام الأمثل للموارد، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وتغليب المصلحة العامة.
لذلك، تعد الحوكمة العدو الأكبر لمن يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية، ضاربًا بالمصالح العامة عرض الحائط، إذ تعمل ممارسات الحوكمة الجيدة على الحد من استغلال السلطة والنفوذ، وتقليل فرص التلاعب المالي والإداري، مما يجعلها عقبة أمام الفاسدين.
وتماشيًا مع رؤية المملكة 2030، نفذت المملكة إصلاحات تشريعية وتنظيمية لتعزيز الحوكمة والشفافية، كان من أبرزها تفعيل دور هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة)، وسن قوانين وأنظمة تعزز العدالة والمساءلة داخل القطاعات الحكومية والخاصة، واستعادة مليارات الريالات التي أُهدرت بسبب ضعف الحوكمة وسوء الإدارة.
وقد أكد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، أهمية مكافحة الفساد لضمان الحوكمة الرشيدة، حيث قال: “لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد، سواء كان وزيرًا أو أميرًا أو أي شخص، من المساءلة.” كما أضاف: “نحن في المملكة العربية السعودية لن نسمح بأن يكون الفساد جزءًا من أي مشروع تنموي أو اقتصادي. لا مكان للفاسدين في رؤيتنا للمستقبل.” وأكد أيضًا: “لا توجد فرصة لتنمية وطنية مستدامة دون القضاء على الفساد، ولن يكون هناك اقتصاد قوي إذا كانت المصالح الخاصة تطغى على المصلحة العامة.”
لا تقتصر الحوكمة على مكافحة الفساد فقط، بل تلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق الاستدامة، والتنمية المجتمعية، وتعزيز كفاءة اتخاذ القرار، مما يرفع من تنافسية المؤسسات، ويساعد في التكيف مع المتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، ويعزز من جاذبية الاستثمار الأجنبي، وتحسين تصنيف المملكة في مؤشرات الشفافية.
إن تعزيز تطبيق ممارسات الحوكمة، وترسيخ الشفافية، والمساءلة، والمشاركة في اتخاذ القرارات، يشكل حجر الأساس في تحقيق أهداف رؤية 2030، حيث تسعى المملكة إلى بناء اقتصاد مزدهر قائم على العدالة، والكفاءة، والنزاهة.
وختامًا، تبقى الحوكمة سلاحًا فتاكًا ضد الفساد، وأداة رئيسية لتحقيق التقدم، والعدالة، والشفافية، مما يجعلها ضرورة وليست مجرد اختيار، لضمان مستقبل قائم على الشفافية والعدالة، بما يضمن تحقيق تطلعات المعنيين بكافة أطيافهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال