الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رسالة إلى المدينة، أعرف أنكِ مشغولة. فهناك من يعبّد طريقًا جديدًا، وآخر يجهّز مشروعًا للافتتاح، وتقرير يشرح ما تمرين به، بكل ما في المؤشرات من ألوان. أعرف أيضًا أنكِ أعدتِ خطة سياحية مكتملة التفاصيل؛ من أماكن الإقامة إلى المادة التعريفية، ومن تصميم الهوية إلى الشعار الذي يظهر في كل مكان، لكن دون أن يتذكره أحد.
دعيني أصارحك بأمر لا يظهر عادةً في التقارير الإحصائية، الزائر لا يعرف كل هذا عنكِ ولا يعنيه كثيرًا. فإن لم يجدك سريعًا في نتيجة بحث، أو تقع عينه على صورة صادقة، أو في نقاشٍ مع أحدٍ يدافع عنك، فسيذهب إلى مكانٍ آخر دون أن يعرف أنه خسر شيئًا. هل تعلمين ما المشكلة؟ أننا كثيرًا ما نُصوّر السائح كأنه باحث نهم، يتفحص المعلومات ويقارن التفاصيل. بينما هو -في أغلب الأحيان- شخص ينجذب إلى عنوان لافت، فيحجز دون أن يُجهد نفسه بالسؤال.
لا شك أنكِ رائعة في الترحيب، ويشعر الزائر بذلك عند وصوله. لكن لعلّ ما يُقال عنك أحيانًا لا يُنصفك، أو لا يعبّر عنك حقًّا. فالرحلة، كما تعلمين، لا تبدأ من المطار.
كل سائح -قبل أن يكون سائح- يعيش حالة من التردد. يتأرجح بين حماسة التجربة وتكاليفها، بين الصورة التي يراها والمعلومة التي لا يثق بها تمامًا. هنا تبدأ رحلة السائح، حين يدخل في مفاوضاتٍ شرسة مع نفسه. ودائمًا السؤال الذي يتبادر في ذهني وذهنك، هل أذهب إلى المدينة التي أعرفها؟ أم أخاطر بوجهة لم يزرها أحد أعرفه؟
دانيال كانيمان يشرح كيف أن تفكير الإنسان يعمل بنظامين، واحد سريع يتفاعل مع الانطباعات الأولى، وآخر بطيء يُفكّر ويُقارن. والمشكلة -أو الفرصة- حين يتعلق الأمر باختيار وجهة، غالبًا ما تتأرجح قراراتنا بين هذين النمطين. صورة لافتة قد تثير حماسته، لكن سرعان ما يتساءل: هل هذا فعلاً ما سأراه؟ وهل ستكون الرحلة مريحة كما تبدو؟ هذه الأسئلة نتداولها كل مرة -أنا وأنت- قبل أن نكون فيها على متنِ طائرةٍ ما، ودائمًا ما تنجح الوجهة الذكية في أن تطمئن عقولنا وأنظمتها الغريبة.
إن كسْب هذه الحرب الذهنية في عقل السائح، يتطلب صدقًا بسيطًا، وشعورًا مصممًا بعناية، فالرحلة التي لا تبدأ في خيال السائح، لن تبدأ أبدًا. لن يكون الحجز ولا الخطط الترفيهية سوى تفصيل لاحق، لا ينبغي الوقوف عنده الآن.
في دراسة على حملة Pure New Zealand 100%، نجد أمامنا حالة تسويقية تقدم دليلًا على فعالية تصميم الانطباع الأول، فمنذ انطلاقتها عام 1999م، اعتمدت الحملة على الحد الأدنى من اللغة والحد الأقصى من الإيحاء والشعور. واختارت أن تحيل المهمة للبيئة والمناظر الطبيعية نفسها، مع غياب لأي خطاب تسويقي مباشر أو جمل مكررة عن الأصالة والضيافة.
لكن -لنكن صريحين- الحملة قديمة نوعًا ما، وفي حقيقة الأمر أني لست من الذي يتحمسون لمشهد الندى على ورقة الشجر. لكن ما شدني فعلًا، أن نيوزيلندا لم تقدّم كل شيء، هي فقط ركزت على زاوية واحدة في شعور الصفاء، ونجحت في إبرازه حتى بدا وكأنه سبب كافٍ للزيارة، وهذا بالضبط ما يمكن تعميمه. إذا كان التركيز المتقن على بُعد واحد قاد إلى هذا الأثر، فماذا لو أُُحسن تقديم عدّة أبعاد عاطفية ومعرفية؟
على آية حال، نجحت حملة نيوزيلندا السياحية، سجلت البلاد أرقام زوار دوليين في عام 2019م تعتبر هي الأعلى مقارنة بالسنوات السابقة، كما ساهم القطاع السياحي بأكثر من 40 مليار دولار نيوزيلندي في الاقتصاد الوطني، بحسب الإحصائيات الرسمية.
ربما من المناسب -بعد كل الحديث عن الصور والمشاعر والانطباعات- أن نتوقف قليلًا عند شيء أقل ماديّة، لكنّه مهم. إنه الاسم، مجرد الاسم. ففي النهاية، ما الذي يجعل أحدهم يقول، أريد الذهاب إلى باريس، وليس إلى المدينة المجاورة التي لا تقل جمالًا؟ أؤكد لك أن السبب ليس برج إيفل، ولكن باريس -ككلمة- تحتوي بداخلها على سياق ثقافي واجتماعي جذّاب.
هذا السياق يشرح ما تمثله باريس حين تقال، كأنك تستدعي مشهد سينمائي متخيّل. آلا تعتقد أن السبب وراء زيارة باريس للمرة الأولى، قد يأتي بسبب منشور بعنوان، صباح بارد في مقهى باريسي، بالنسبة لي، أراه محفّز معقول وإن بدا سطحيًا.
وفي السياق اللغوي للأسماء، تركيا في عام 2022م، أدركت أن الاسم السابق Turkey يشير إلى البلد من الخارج لكن لا يمثله من الداخل، وربما له معاني غير جيدة في السياقات الغربية مثل الديك الرومي. وهذا ما دفع الدولة لإعادة تقديم نفسها باسمها الحقيقي Türkiye كما ينطق ويكتب بلغتها الأم. لكن الأهم من هذا التحوّل اللغوي، هو أن التغيير لم يتعلق في الخطاب السياسي، إنما انعكس على الصوت التسويقي للبلد، فأصبح الموقع الرسمي للدليل السياحي هو GoTürkiye، لتكون صيغة تجسّد صوتًا يريد أن يُسمع بشكله المحلي.
هذا التراكم الذي تعمل عليه الدول، نابع من إيمان أن السرديّة الثقافية يمكن نقلها، أي أن تحمل المدينة فكرة يمكن التعبير عنها بصورة وتجارب عاطفية، يشارك في بنائها الكتّاب، صناع المحتوى، السينمائيون، ليس فقط موظفي التسويق.
لم تعد المدن تنتظر زائريها عند مداخلها. الزائر اليوم يمر بها -غالبًا- دون أن تطأ قدمه أرضها. فهي حاضرة في كل نتيجة بحث، في كل صورة تظهر فجأة على شاشة، وتترك ما تتركه من أثر في اللاوعي. لا يوجد مدينة تستطيع أن تمنع نفسها من أن تكون موجودة رقميًا، وهذا التواجد، لانه لا يخضع للضبط، بات أخطر من أن يُترك للصدفة.
أستطيع أن أتخيّل طاولة نقاش في أي وزارة سياحة في العالم، يبدأ بها المسؤول بسؤال، كيف نظهر للناس رقميًا؟ ويأتي آخر، ويقول، المشكلة من الذي يرسم هذا الظهور أصلًا؟ من الذي يلتقطه ويشرحه؟ ومن الذي يعلق عليه دون أن نطلب رأيه؟ صحيح أن السيطرة الكاملة على كل ما يقال مستحيلة، لكن الأسوأ صدقني ألا تملك المدينة شيئًا تقوله عن نفسها.
أكثر ما نقرؤه اليوم في التسويق، هو الهوية الرقمية، ولا أعرف بصراحة إذا كنت أفهم هذا المصطلح بشكل صحيح، لكن ما يعنيني فيه، وما أظنه يستحق النظر، هل الهوية الرقمية للمدينة هي حقًا تلك الحالة الشعورية التي تكون في عقل الزائر قبل أن يصل؟ لأننا حين نبحث عن وجهة في البحث، لا أعتقد أننا نريد أن نجد حقيقة، نحن بشكل أو بآخر، نبحث عما يُقنعنا بتصديق شعور أولي سبَق أن تكوّن.
اليوم 86% من الأشخاص يصبحون مهتمين بمكانٍ ما، بعد رؤية محتوى أُنتج من قبل مستخدمين آخرين، سواءً صور أو تعليقات أو تجارب شخصية، وهذا الرقم يرتفع إلى 92% بين الأصغر عمرًا. إضافةً إلى ذلك، 52% من المسافرين، يخططون فعليًا لزيارة وجهة بناءً على ما يرونه من أصدقائهم وعائلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا، تُبنى قرارات سياحية، بكل تعقيداتها، على قصّة قصيرة كتبها أحدٌ آخر لا ينتمي لهذه البلاد.
الرسالة هنا:
1. يجب أن تكون المدينة حاضرة في ذهن السائح لتحضر في خريطته القادمة.
2. كل صورة يراها السائح، أو تعليق يقرأه، هو قرار يُصنع ببطء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال