الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهد العالم بأسره خلال العقود الأخيرة – ولاسيما في السنوات القليلة الماضية – تطورات تقنيَّة سريعة ومتلاحقة، وقد صاحَب هذه التطورات تحولاتٌ كبيرة في مختلف المجالات: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية والبيئية، وكانت هذه التحولات جذريةً في بعض المجتمعات؛ بسبب التأثيرات العميقة التي أحدثتها ثورة التقنيَّة والمعلومات، الأمر الذي أدَّى إلى تزايد الطلب على البيانات والمؤشرات الإحصائية؛ نظرًا لدورها المهم والمحوري في رسم السياسات، ووضع البرامج والخطط التنموية، وانعكاسات ذلك في عملية صنع واتخاذ القرار.
وفي اعتقادي أن المملكة العربية السعودية كانت من بين أكثر دول العالم استفادة من التطورات التقنية الهائلة التي شهدها مجال ذكاء الأعمال، والبيانات الضخمة، وقد واكَب ذلك حدوثُ تطور كبير في القطاع الإحصائي بالمملكة، إذ حظي بدعم كبير واهتمام ملحوظ على أعلى المستويات تقديرًا لدوره المحوري في تحقيق مستهدفات (رؤية المملكة 2030) وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة في كافة المناطق الإدارية بالمملكة، ولا أدلَّ على ذلك من كلام سمو سيدي ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – حين قال: انظروا إلى الأرقام!! الأرقامُ هي التي تتحدث!!
وفي ظل تسارع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، باتت الحاجة إلى البيانات الدقيقة والتحليل العميق أمرًا أساسيًّا في صناعة القرار ورسم السياسات العامة، وبحكم تنظيمها فإن الهيئة العامة للإحصاء في المملكة العربية السعودية هي الجهة الرسمية الوحيدة المعنيَّة بإنتاج البيانات الإحصائية عن المملكة، وهي المرجعية الرسمية في كل ما يتعلق بالبيانات الخاصة بالسعودية، والتي تشكل الأساس في دعم رؤية السعودية 2030. ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية مراكز الفكر (Think Tanks) كجهات داعمة للعمل الإحصائي، لاسيما إذا ما تم تفعيل دورها بالشراكة مع الجمعيات المهنية المتخصصة في الإحصاء وعلوم البيانات، لتقديم قيمة مضافة تُعزز من جودة العمل الإحصائي وتعظيم أثره.
مراكز الفكر (Think Tanks)هي مؤسسات بحثية مستقلة أو شبه حكومية، تُركز على إجراء الدراسات المتعمقة، وتقديم التوصيات المبنية على الأدلة لدعم اتخاذ القرار. وتكمن أهمية دورها في القيام بالدراسات والبحوث العلمية المتعمقة لتحليل السياسات والمخرجات الإحصائية، ورصد التحديات التي تُواجه خطط التنمية المستدامة وتعرقل عملية التطوير والتحديث، وتقترح حلولًا علمية لها، كما أنها تقوم بسد الفجوة بين المعرفة الأكاديمية وصناع القرارـ وتسهم بدور كبير في دعم الابتكار باستخدام البيانات الضخمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومراكز الفكر بطبيعتها يمكنها أن تلعب دورًا مركزيًّا يساهم في تحديد المسارات الأكثر فائدة للمجتمع عبر زيادة الوعي وتكثيف المناقشات، ومن المتوقع أن تتزايد مساحة تواجد مراكز الفكر السعودية في المشهد التنموي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في السنوات القليلة القادمة، وذلك من خلال تكثيف دور هذه المراكز ودعم منتجاتها البحثية والتحليلية والفكرية، وفي المجال الإحصائي، يمكن أن تسهم مراكز الفكر بدور كبير في تحويل البيانات الخام إلى رؤى واستراتيجيات، من خلال شراكات علمية ومهنية فعَّالة، لاسيما من خلال التعاون بين مراكز الفكر والجمعيات المهنية المتخصصة في علوم الإحصاء والبيانات.
وفي الواقع فإن الجمعيات المهنية في المملكة العربية السعودية، تلعب دورًا محوريًا في دعم البنية العلمية والكوادر المتخصصة. وعندما تتكامل جهود وأدوار هذه الجمعيات مع جهود وأدوار مراكز الفكر، سيثمر ذلك ثمارًا يانعةً، طيبة الأُكُل، تتمثل في تحقيق العديد من الفوائد العلمية والمهنية المهمة، من بينها تعزيز المحتوى العلمي والتقني من خلال توظيف الخبرات التخصصية في الإحصاء وعلوم البيانات، وتقديم مبادرات تدريبية مشتركة تُسهم في بناء قدرات الكوادر الوطنية الإحصائية سواء في داخل الهيئة العامة للإحصاء أو خارجها، كما سيؤدي ذلك إلى اقتراح مؤشرات إحصائية نوعية جديدة تنبثق من أحدث الممارسات المهنية الإحصائية المحلية والدولية، هذا فضلًا عن إنتاج دراسات تقييم الأثر، باستخدام تقنيات متقدمة مثل تحليل السلاسل الزمنية، والتعلم الآلي.
وبناءً على تحليل (سوات) الرباعي فإذا بحثنا عن الفرص التي نتوقع الحصول عليها من خلال هذا التكامل بين مراكز الفكر والجمعيات المهنية المتخصصة في علوم الإحصاء والبيانات، ففي الحقيقة فإن هناك الكثير من فرص تطوير العمل الإحصائي في المملكة من خلال هذا التعاون، حيث يمكن للهيئة العامة للإحصاء تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، من أبرزها تعزيز الابتكار في تقديم البيانات عبر إعادة تصميم أدوات جمع البيانات وتحليلها بطرق تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وبمشاركة خبراء من الجمعيات المهنية، مما يسرّع من إنتاج الإحصاءات ويزيد من دقتها. فضلًا عن تصميم سياسات قائمة على البيانات بالتعاون مع عدد من مراكز الفكر في المملكة مثل مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية (KAPSARC)، كما يمكن للهيئة إنتاج تحليلات معمَّقة تدعم صناع القرار في قضايا مثل سوق العمل، والتحول الرقمي، والتغير المناخي. بالإضافة إلى تعزيز جودة البيانات، واستخدامها في القطاع غير الربحي بالتنسيق مع الجمعيات المهنية؛ إذ يُمكن بناء أدوات لقياس الأثر الاجتماعي للسياسات والبرامج، مما يُعزز من استخدام البيانات الإحصائية خارج الإطار الحكومي.
وحتى لا يكون كلامنا مغرقًا في التنظير فسوف أضرب بعض الأمثلة والنماذج لما يمكن أن ينشأ من تعاون فعّال بين مراكز الفكر والجمعيات المهنية المتخصصة في علوم الإحصاء والبيانات، حيث يمكن تنظيم فعاليات مشتركة تجمع الهيئة ومراكز الفكر والجمعيات للتعاون في تنظيم المنتديات والمؤتمرات العلمية، مثل “المنتدى الإحصائي للجامعات والجمعيات” الذي يمكن أن تنظمه الجمعيات الإحصائية تحت إشراف الهيئة العامة للإحصاء. ولا يقتصر الأمر على ذلك وحسب، إذ من الممكن تنفيذ دراسات علمية ومشاريع بحثية مشتركة مثل إعداد تقارير استشرافية عن مستقبل سوق العمل السعودي بالتعاون مع مراكز الأبحاث الاقتصادية والجمعيات المهنية، كما يمكن التعاون في تطوير المعايير والمنهجيات الإحصائية من خلال إشراك الخبراء المحليين في صياغة منهجيات جمع البيانات وتحليلها ومعالجتها، بما يتوافق مع المعايير الدولية.
وحتى تكتمل رباعية (سوات) أتكلم الآن عن التحديات والحلول المقترحة لها – بحكم التخصص والعمل الحكومي السابق – فمن أبرز التحديات المتوقعة ضعف التنسيق المؤسسي الرسمي بين الجهات، وتفاوت القدرات الفنية والعلمية والتقنية بين مراكز الفكر، ومحدودية مشاركة البيانات التفصيلية على نطاق واسع، ومع أهمية هذه التحديات إلا أن هناك حلولًا كثيرة مقترحة من أبرزها إنشاء لجنة وطنية دائمة للتنسيق بين هيئة الإحصاء، ومراكز الفكر، والجمعيات المهنية، وتمكين الوصول الآمن للبيانات عبر بوابات رقمية تضمن الخصوصية، وتمويل مشاريع بحثية مشتركة لتجريب حلول جديدة وتحليل أثرها على نطاق واسع.
في خاتمة هذا المقال أود التأكيد على أن الاستفادة من مراكز الفكر (Think Tanks) والجمعيات المهنية المتخصصة في الإحصاء وعلوم البيانات لا يمثل فقط فرصة لتطوير أعمال الهيئة العامة للإحصاء، بل هو – في رأيي – ضرورة استراتيجية لتعزيز صناعة القرار المبني على البيانات والمؤشرات الإحصائية في المملكة، ومن خلال هذا التكامل، يمكن بناء منظومة إحصائية متقدمة، تُسهم بفعالية في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وتعزز من مكانة المملكة العالمية في بيانات ومؤشرات التنمية المستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال