الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتصدر سوق التجارة الإلكترونية مشهد التعاملات التجارية في ضوء النقلة التنظيمية في البيئة الرقمية التجارية التي اشعلتها رؤية السعودية ٢٠٣٠ عبر توكيد الدور المساهم للابتكار في كل من التجارة الإلكترونية و ريادة الأعمال لبناء اقتصاد رقمي تنافسي يقوم على مبدأ انفتاح السوق كأحد المبادئ الأساسية التي نصت عليها سياسة الاقتصاد الرقمي السعودي.
لا شك أن التسارع التقني الذي ولّد تقنيات حديثة كالذكاء الاصطناعي و”البلوكتشين” بات أحد العوامل الرئيسية الجاذبة لرواد الأعمال إلى سوق التجارة الإلكترونية. فهذه التقنيات لم تعد مجرد أدوات تشغيلية، بل تحولت إلى رافعة استراتيجية تُمكّن المشاريع الناشئة من تقديم تجارب رقمية أكثر تخصيصًا وكفاءة، مما يمنحها ميزة تنافسية قوية محليًا ودوليًا.
فعبر الذكاء الاصطناعي، يستطيع رائد الأعمال تحليل سلوك المستهلك بدقة، وتخصيص المنتجات والخدمات بشكل فوري، وأتمتة خدمة العملاء بأسلوب ذكي يقلل من التكاليف التشغيلية. أما تقنية البلوكشين، فتمثل تحولًا في موثوقية العمليات، من خلال توثيق المعاملات بشكل غير قابل للتلاعب، وتنفيذ العقود تلقائيًا، وتوفير شفافية تتبع المنتجات والدفعات.
لكن هذا التحول التقني من التجارة الإلكترونية التقليدية إلى نماذج التجارة الرقمية المتقدمة في تشغيل المتاجر الذكية المعتمدة على المعالجات المؤتمتة، يفرض واقعًا قانونيًا متسارعًا بتحديات متراكبة مما يستدعي تجويدًا مستمرًا للإطار التشريعي المنظم لسوق التجارة الرقمية.
يتمثل التحدي القانوني المركب الذي قد تواجهه المشاريع الناشئة لرواد الأعمال في تشغيل المتاجر الذكية، في أنهم أصبحوا – بفعل الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والبلوكتشين – في موقع المساءلة القانونية عن نتائج وآليات تقنية لا تخضع مباشرة لإرادتهم البشرية. فخوارزميات الذكاء الاصطناعي والعقود الذكية المؤتمتة قد تُنتج آثارًا قانونية تمسّ حقوق المستهلك الجوهرية : ” مثل الشفافية، وحق التراجع، وحق معرفة مصدر القرار” ، وهي حقوق منصوص عليها في نظام التجارة الإلكترونية.ويزداد هذا التحدي تعقيدًا عند استخدام أنظمة البلوكشين التي تُسجّل بيانات المستهلك بطريقة غير قابلة للتعديل أو الحذف، ما يضع رائد الأعمال في موقع قانوني إشكالي بين التزامات تنظيمية يصعب تنفيذها تقنيًا، ومساءلة محتملة بموجب نظام حماية البيانات الشخصية. ومع ذلك، لا ينبع هذا التحدي القانوني المركب من غياب التنظيم، بل من أن الأنظمة القائمة – وهي نظام التعاملات الإلكترونية، ونظام التجارة الإلكترونية، ونظام حماية البيانات الشخصية – ورغم ريادتها في تأسيس بنية تنظيمية للبيئة التجارية الرقمية، إلا أن لوائحها التنفيذية لا تزال بحاجة إلى تحديث مستمر يواكب التحولات التقنية المتسارعة التي تفرزها التطبيقات الذكية والمعالجات المؤتمتة. ففي غياب هذا التحديث، تبقى العلاقة التعاقدية بين المتجر الذكي والمستهلك معرضة للفراغ التنظيمي، ومهددة بمخاطر قانونية قد تُضعف من مستوى الحماية. كما قد يُثقل كاهل رائد الأعمال بتكاليف امتثال غير متوقعة تعوق استدامة الابتكار، نتيجة زيادة التكلفة القانونية المباشرة، والحاجة إلى تخصيص موارد إضافية لفهم الأنظمة، وبناء تدابير وقائية، وتكييف البنية التشغيلية مع المتطلبات التنظيمية المتجددة.
فرغم أن مفهوم العقد الذكي يندرج ضمنيًا في تعريف “التعاملات الإلكترونية” الوارد في نظام التعاملات الإلكترونية، لكونه عقدًا يُبرم ويُنفذ كليًا عبر وسائل إلكترونية، إلا أن تنظيم المسؤولية القانونية الناشئة عن تنفيذ هذه العقود بشكل مؤتمت بين المستهلك والمتجر الذكي لا يلقى تغطية واضحة في نصوص اللائحة التنفيذية لنظام التجارة الإلكترونية.
فاللائحة، من خلال المادة الرابعة، ركزت على تنظيم الخطاب الإلكتروني بين المستهلك وموفر الخدمة، وألزمت هذا الأخير بالإفصاح عن خطوات الإبرام، ووسائل تصحيح الأخطاء، وشروط التعاقد. لكنها افترضت تفاعلًا بشريًا في جميع مراحل التعاقد، دون أن تُعالج صراحةً حالات العقود التي تُنفذ تلقائيًا ، كتلك التي تتم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي أو البلوكشين، ما يترك مسألة المسؤولية القانونية الناتجة عن التشغيل المؤتمت في منطقة رمادية، تُضعف من مبدأ حماية المستهلك، وتُربك الوضع القانوني للأطراف في حال وقوع خلل تقني أو تعاقدي خارج عن إرادتهم.
من هنا، تبرز الجدوى التشريعية في إعادة صياغة المادة الرابعة من اللائحة التنفيذية، بحيث لا تقتصر على الإفصاح عن الإجراءات التقليدية في التعاقد، بل تتضمن تنظيمًا صريحًا لنماذج العقود الذكية والمؤتمتة، وآليات معالجة الأخطاء التقنية، وأثر غياب التفاعل البشري على صحة العقد وحقوق المستهلك. فإن إدراج هذه العناصر من شأنه تعزيز الثقة في الأنظمة المؤتمتة، وتقديم حماية قانونية استباقية تُواكب التحول الرقمي دون أن تُقيّد الابتكار.
وفي السياق ذاته، تُظهر اللائحة التنفيذية لنظام حماية البيانات الشخصية تحدياً موازياً، حيث تنص الفقرة (5) من المادة الرابعة منها على التزامات إضافية على جهات التحكم فقط في حال استخدام تقنيات ناشئة أو اتخاذ قرارات مبنية على المعالجة المؤتمتة، دون أن تشمل هذه الحماية عموم أصحاب البيانات، وهم في طرحنا الحالي عموم المستهلكين.
ويُضاف إلى ذلك التحدي المرتبط باستخدام تقنية البلوكشين، التي تُسجل البيانات بطريقة غير قابلة للتعديل أو الحذف، ما يجعل من “حق الإتلاف” المنصوص عليه في المادة الثامنة من اللائحة أمرًا صعب التطبيق تقنيًا. وهو ما قد يُعرّض موفري الخدمات الرقمية، خصوصًا رواد الأعمال في مشاريعهم الناشئة، إلى مساءلة قانونية محتملة عن التزام يصعب تنفيذه في الواقع التقني.
وعليه، تبرز الحاجة إلى تجويد كل من المادة الرابعة من اللائحة التنفيذية لنظام التجارة الإلكترونية، وأحكام اللائحة التنفيذية لنظام حماية البيانات الشخصية، بحيث تشمل – إلى جانب الإفصاح والإبلاغ – عناصر تنظيمية جوهرية، منها:
ويكتسب هذا الطرح أهميته من اتساقه مع التحولات التشريعية العالمية في تنظيم التجارة الرقمية وحماية المستهلك في البيئة المؤتمتة، لا سيما في الدول الرائدة في الاقتصاد الرقمي ضمن النطاقين الأوروبي والآسيوي. فقد تبنّى الاتحاد الأوروبي نهجًا متقدّمًا في هذا السياق، من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وقانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (AI Act)، اللذين يشكلان معًا إطارًا قانونيًا شاملًا لتنظيم المعالجات المؤتمتة. ويتضمن هذا الإطار الاعتراف بالعقود الذكية، وتقييد اتخاذ القرارات الآلية التي تؤثر على الأفراد دون تدخل بشري، وضمان الشفافية والمراجعة في كل مرحلة من مراحل المعالجة الرقمية. أما في سنغافورة، فقد اختارت نموذجًا مرنًا يعتمد على مساحات تنظيمية تجريبية (Regulatory Sandboxes)، أتاحت من خلالها اختبار العقود الذكية ضمن بيئات قانونية مرنة تجمع بين التطوير التقني والامتثال التشريعي. وفي الاتجاه ذاته، طورت كوريا الجنوبية منظومة تنظيمية تعتمد على إرشادات تنفيذية دقيقة، تدمج بين حماية البيانات وتنظيم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتفسير آثارها القانونية على العلاقة بين المتجر الرقمي والمستهلك.
وفي ضوء هذه التجارب الدولية، تُظهر المقترحات المقدّمة في هذا المقال تقاطعًا واضحًا مع التوجهات الدولية الرائدة، لا من حيث الرؤية التشريعية فحسب، بل من حيث الأدوات التنظيمية المقترحة، كتضمين العقود الذكية ضمن الأطر النظامية، وإعادة تعريف المعالجة المؤتمتة وحدود مسؤوليتها، وتطوير بدائل تقنية قابلة للتطبيق لحق الإتلاف في بيئة البلوكشين، إلى جانب ضمان حق المستهلك في الاعتراض والمراجعة البشرية في مواجهة القرارات الآلية.
تأتي هذه التأملات في تجويد الإطار التشريعي للبيئة التجارية الرقمية متزامنة مع طرح مقترح تعديل اللائحة التنفيذية لنظام حماية البيانات الشخصية على منصة “استطلاع”، وهو توقيت تنظيمي مهم يُتيح إعادة صياغة بعض الأحكام لمواكبة التحولات التقنية العميقة التي يشهدها سوق التجارة الرقمية. ومع ذلك، فإن البيئة التجارية الرقمية لا تزال في حاجة إلى استكمال بنيتها النظامية، من خلال صدور نظام مستقل ينظم استخدامات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب صدور نظام حماية المستهلك الذي لم يُعتمد بعد بشكل نهائي، وذلك لضمان تكامل المنظومة التشريعية، وتحقيق حماية فعالة للمستهلك في ظل تصاعد الاعتماد على المعالجات المؤتمتة والتقنيات الذكية.
ختاماً، فإن تطوير وتجويد الإطار التشريعي السعودي المنظم للتجارة الرقمية، بما يشمل تحديث اللوائح التنفيذية بشكل استباقي، يُعد ركيزة استراتيجية لتعزيز ثقة المستهلك من جهة و دعم الابتكار في ريادة الأعمال الرقمية من جهة أخرى، من أجل تحقيق نمو مستدام للاقتصاد الرقمي الوطني، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال