الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم اليوم الذي يتسارع فيه التقدم التقني، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مصطلح عابر أو تقنية نخبوية مقتصرة على معامل البحث في كبرى الشركات العالمية، بل أصبح واقعًا يتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية وممارساتنا العملية. وبصفتي جزءًا من قطاع الأعمال في المملكة العربية السعودية، أجد نفسي أمام تحوّل عميق يحدث أمام أعيننا، يدعونا لا إلى التأمل فحسب، بل إلى المشاركة الفاعلة، واستغلال هذه الثورة التكنولوجية لتطوير نماذج العمل وفتح آفاق جديدة للنمو والابتكار.
الذكاء الاصطناعي اليوم هو أشبه بعدسة مكبرة تكشف الفرص الكامنة وتعيد ترتيب الأولويات في مؤسسات الأعمال. في مقال قرأته مؤخرًا في “Telecom Review”، لفتني كيف أن الشركات الرائدة أصبحت تعتمد على الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتحسين الكفاءة التشغيلية أو تقليل التكاليف، بل أيضًا لإعادة تصميم العلاقة بين الشركة وعميلها. عندما تستخدم الخوارزميات الذكية لتحليل سلوك العملاء والتفاعل معهم في الوقت الحقيقي، فإننا ننتقل من مفهوم “العميل المستهدف” إلى “العميل المفهوم”، وهذا بحد ذاته تحوّل جذري في فلسفة السوق.
من تجربتي، أرى أن الذكاء الاصطناعي في المملكة لم يعد فكرة مستقبلية، بل أصبح مسألة حاضرة، وجزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات التحول الرقمي. في بعض المشاريع التي واكبتها، رأيت كيف ساهمت أدوات تحليل البيانات المبنية على الذكاء الاصطناعي في تقليص فترات اتخاذ القرار من أسابيع إلى ساعات، وكيف أتاحت هذه الأدوات للإدارات الاستراتيجية أن ترى المشهد بشكل أوضح، وتتفاعل معه بمرونة وذكاء. الذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية، بل ضرورة في بيئة تنافسية يتغيّر فيها كل شيء بسرعة.
ويأتي ما شهده منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي في الأسابيع الماضية ليعزز قناعتي بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل هو جوهر المستقبل الاقتصادي والتحولي. فقد بدا واضحًا خلال النقاشات التي دارت في المنتدى أن المملكة تخطو بثبات نحو ريادة عالمية في هذا المجال، ليس فقط عبر ضخ الاستثمارات، بل من خلال بناء القدرات المحلية وتطوير حلول ترتكز على لغتنا وهويتنا وثقافتنا. رؤية القيادة في هذا الجانب لم تعد تقتصر على الاستفادة من التقنية، بل تمتد إلى المساهمة الفعلية في تطويرها، بما يليق بمكانة المملكة وطموحاتها في عالم يتشكل من جديد على أعيننا.
لكن، كما في كل تغيير كبير، لا يمكن أن نتجاهل التحديات. هناك فجوة مهارية واضحة يجب سدّها، خصوصًا فيما يتعلق بفهم العاملين لطبيعة الذكاء الاصطناعي وحدوده، وكيفية التعامل معه كشريك في العمل لا كمجرد أداة. كما أن غياب الأطر الأخلاقية والتنظيمية الواضحة قد يفتح المجال لاستخدام غير مسؤول أو عشوائي لهذه التقنية. لذلك، أرى أن الدور القيادي لا يقتصر فقط على إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المؤسسة، بل على بناء ثقافة مؤسسية تُدرك قيمة هذه التقنية وتستخدمها بحكمة، وتزرع الثقة في نفوس العملاء والشركاء بأن الذكاء الاصطناعي في خدمتهم لا ضدهم.
ما يلهمني في هذه المرحلة هو أننا نعيش في زمن تمنحنا فيه التقنية فرصًا غير مسبوقة لإعادة بناء المستقبل. ومع رؤية السعودية 2030، التي ترتكز على الابتكار والتحول الرقمي كدعائم أساسية، فإن البيئة مهيأة لأن نصبح روادًا في توظيف الذكاء الاصطناعي. لكن لا يكفي أن نواكب هذه التقنية، بل يجب أن نُشكّلها وفق أولوياتنا وقيمنا، وأن نسهم في تطويرها من واقعنا العربي والسعودي، لا أن نكتفي باستيراد الحلول الجاهزة.
أؤمن أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون عامل تمكين عظيم، لكنه بحاجة إلى إنسان يفكر، ويخطط، ويوازن بين ما هو تقني وما هو إنساني. فبينما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يتنبأ ويحلل ويقترح، تبقى للإنسان القدرة على الحُكم والتقدير وربط التقنية بالقيم. وهذا هو التحدي الحقيقي، وهنا يكمن الجمال: أن نستخدم أذكى ما أنتجته عقول البشر في خدمة أهداف نبيلة، وأن نوجه التقنية نحو خلق قيمة مستدامة تفيد الإنسان والمجتمع.
لذلك، أدعو كل من يعمل في مجال الأعمال، سواء كان في قطاع تقني أو تقليدي، إلى أن ينظر للذكاء الاصطناعي لا كتهديد أو موجة عابرة، بل كفرصة نادرة لإعادة التفكير في كل شيء، من نماذج الأعمال إلى طريقة التفاعل مع العملاء إلى جوهر ما نقدمه للعالم. فلنكن جزءًا من هذا المستقبل، لا متفرجين عليه. ولنصنع من الذكاء الاصطناعي قصة نجاح محلية تروى بفخر، لا مجرد رقم في تقارير عالمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال