الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
التميّز المؤسسي ليس شعارًا يُرفع، ولا جائزة تُعلّق، بل نهج يُبنى، وثقافة تُغرس، وأثرٌ يبقى.
وبين من ينظر إليه كوسيلة للتحسين المستدام، ومن يحوّله إلى غاية شكلية تُربك الأداء وتُثقِل بيئة العمل، تتباين الممارسات وتتناقض النتائج.
فليس كل من جمع النقاط حصد النضج، ولا كل من نال الاعتماد بلغ التميز.
إن جوهر التميز لا يكمن في النماذج والمعايير بحد ذاتها، بل في الوعي الذي يُحسن توظيفها، والثقافة التي تُفعّلها، والقيادة التي تسخّرها لخدمة غاية أسمى من مجرد الفوز بجائزة أو الحصول على اعتماد.
ومع ازدياد الاعتماد على معايير الجودة وجوائز التميز كأدوات للتطوير، تتّسع الفجوة بين من يُدرجها ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، ومن ينزلق إلى ممارسات شكلية تُفرغها من مضمونها، وتشوّه الغاية التي وُضعت لأجلها.
وفي بعض الحالات، تحوّلت هذه الأدوات إلى عائق يُثقل كاهل التطوير، وأدّت إلى ممارسات سلبية كاستخدام أساليب شكلية وفرض ضغوط داخلية تضر بثقافة العمل وتُشيع التوتر، بدلاً من التحسين والتعلّم الحقيقي.
ولهذا، فإن النضج المؤسسي لا يُقاس بالامتثال لنموذج، بل بتحقّق تكاملٍ بين بُعدين رئيسيين:
البُعد التنظيمي والتقني: ويتجلّى في وضوح الرؤية والغايات، وتكامل العمليات والتقنيات والنظم الداعمة.
البُعد الإنساني والسلوكي: ويتمثل في ثقافة التعاون، والتواصل الفعّال، وغرس قيم الثقة والاحترام والتراحم داخل بيئة العمل.
ما الدور المنتظر من القيادات ومسؤولي التميز المؤسسي ؟
التميّز المؤسسي لا يُدار من موقع “المراقبة والتدقيق”، ولا يُختزل في متابعة مؤشرات أو تعبئة نماذج؛ بل يُقاد من موقع “التمكين”، حيث تُصاغ الرؤية وتُترجم إلى واقع.
فالقادة وممارسو التميز ليسوا مفتشين على الامتثال، بل شركاء في صناعة القيمة المؤسسية، ومهندسو بيئة عمل تُغذّي النضج وتُحفّز التحسين الذاتي.
الدور المنتظر هو قيادة رحلة النضج المؤسسي من الداخل؛ عبر تمكين الفرق، وتيسير العمل، ومواءمة المعايير مع السياق، لا فرضها كقوالب جامدة.
المطلوب هو نقل التميز من الامتثال إلى الجدوى، وجعل المعايير أدوات لتحسين الأداء لا غايات تُطارَد.
وقبل الانشغال بتفاصيل النماذج، يجب أن تُبنى فلسفة مؤسسية واضحة حول التميز، تستند إلى أربع ركائز مترابطة، تشكّل الأساس لأي نضج حقيقي ومستدام.
الركائز الأربع للنضج المؤسسي: بين البُعد التنظيمي والبُعد الإنساني
أولًا: الجانب التنظيمي والتقني
1. التركيز على النتائج والمواءمة الاستراتيجية
يتحقق ذلك من خلال وضوح الرؤية، وتحديد الأهداف الكبرى للمنظمة بصيغة مبسطة وسهلة الاستيعاب للجميع، وربط المبادرات بها مباشرة.
ويُراعى في ذلك إتاحة المرونة في تنفيذ المهام، وتنوع الطرق المؤدية إلى النتائج، دون التقيّد بتفاصيل إجرائية يمكن تجاوزها دون المساس بجوهر الغايات.
2. عمليات وتقنيات ونُظم متكاملة
يشمل ذلك وجود آلية واضحة لاتخاذ القرار، وتوزيع أدوار دون تداخل، مع مرونة في التكامل والدعم بين الجهات.
كما يتطلب خارطة عمل شاملة لجميع المسارات، وتكاملًا بين الأنظمة والتقنيات والسياسات وأدوات التقييم، مع ضمان مواءمتها جميعًا مع رؤية المنظمة ورسالتها وغاياتها الأساسية.
ثانيًا: الجانب الإنساني والسلوكي
3. التعاون والتواصل
يتطلب تعزيز التعاون الداخلي تبنّي أساليب وأدوات وسلوكيات متفق عليها، تتناسب مع طبيعة المنظمة وسياقها، وتُسهم في تحقيق الانسجام بين الأفراد والقيادات.
ومن ذلك: إدارة الاجتماعات بفعالية، وتوحيد أدوات التواصل، وتنظيم ورش عمل تشاركية لتوليد الأفكار، إلى جانب الاحتفاء بالإنجازات بروح الفريق.
فهذه الممارسات لا تقتصر على تحسين التنسيق، بل تغرس روح الثقة والتفاعل والإبداع، وتُعزز بيئة تعلّم مستمر من خلال التفاعل المجتمعي داخل المنظمة.
4. ثقافة تعزز الثقة والاحترام والتراحم
البيئة المؤسسية الناضجة تجمع بين الالتزام والإنسانية، وبين الحزم والعلاقات الودية، وبين الإنتاجية والتوازن بين الحياة الشخصية والعمل والمجتمع.
وتبقى الثقافة المؤسسية ركيزة محورية لا يكتمل النضج المؤسسي بدونها، فهي التي ترسّخ قيم الثقة والاحترام والتراحم، وتضمن بيئة مهنية تحتفي بالإنجاز دون أن تُهمل الإنسان، وتوازن بين الأداء الفعّال واحتياجات الأفراد على المستوى المهني والشخصي والمجتمعي.
ختامًا
الأصل في جوائز التميز ومعايير الجودة أن تكون أدوات فعّالة ومحفّزة، إذا استُخدمت كوسيلة لتحقيق النضج المؤسسي.
أما إذا تحوّلت إلى غاية بحد ذاتها، فإنها تُفرغ الجهود من مضمونها، وتُصبح عبئًا يثقل الإنتاجية ويُشتّت المسار عن الغاية المنشودة.
إن النضج المؤسسي لا يُقاس بالبنية التقنية أو التنظيمية وحدها، بل يُبنى على ثقافة تُعزّز التعاون، والثقة، والاحترام، والتقدير، والانتماء.
وهنا يتجلّى الدور الحقيقي للقيادات وممارسي التطوير والتميز المؤسسي: تمكين المنظمة، ودعم فرق العمل، وقيادة مسيرة التميز بتوازن بين البُعد الإنساني والتنظيمي والتقني.
وتتكامل ركائز النضج المؤسسي كمنظومة مترابطة؛ فوضوح النتائج، وفعالية العمليات، والتقنيات، والإجراءات، لا تتحقق بمعزل عن بيئة تعاونية متماسكة وثقافة مؤسسية إيجابية.
وعندما تترابط هذه العناصر، تُثمر منظمة أكثر نضجًا، وأكثر قدرة على التكيّف، والإبداع، وتحقيق أثر مستدام.
التميّز الحقّ ما يمتد أثره، ويزهر عطاؤه؛ تبنيه ثقافة محفّزة، وتقوده قيادة تمكّن لا تُقيّد، حيث يتّحد العمل بالقيم، وتُفسّر القيم بالسلوكيات، وتتناغم السلوكيات مع الغايات، وتنسجم الغايات مع رؤية الوطن وتطلعاته.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال