الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ها قد غادر الحُجّاج مشاعر الصدق والنقاء، وخلّفوا وراءهم سكينةً أثارت في نفسي سؤالًا قديمًا: كيف يعود الإنسان إلى سلوكه الأول بعد أن لامس أعماق الطهر؟ وبين تلك الأفواج العابرة، حامت في ذهني مشاهد الإنسان منذ بدء الخلق، بين فطرةٍ طاهرة وقانونٍ يُقنّن ويكبح السلوك الجامح.
في لحظات نادرة من عمر الإنسان، يشعر وكأنه نُزع من ذاته القديمة وأُلقي به في حالة من الطمأنينة؛ حيث لا مال، ولا زينة، ولا سلطة. لكنه ما يلبث أن يعود… وتعود معه كل ما ظنّ أنه دفنه في صعيد الصدق.
لماذا يعود؟ لماذا تتكرر السلوكيات ذاتها حتى بعد أعظم التجارب التي تلامس جوهره؟ ما الذي يجري؟
منذ أن خُلق الإنسان، وهو يحمل في داخله رغبة في الاكتشاف، وميلًا للمخالفة، ونزعة نحو التملّك، وأحيانًا التمرّد. قد تتغير الأزياء، وتتطور المدن، وتُشحذ العقول، لكن السلوك البشري في جوهره يعيد نفسه، وكأن الذاكرة الجمعية مختومة على طينة واحدة.
فلماذا تتكرر الأخطاء نفسها في كل عصر؟ ولماذا لا ينجو الإنسان من ذاته رغم ما يخلّفه من رماد الحروب، وجراح الأزمات، ودروس التاريخ؟
هل المسألة وراثة؟ أم غفلة؟ أم طبيعة بشرية تتأثر؟
لنبدأ من أول السطر…
حين خلق الله آدم وأسكنه الجنة، لم تكن المسألة مجرّد اختبار شجرة، بل تأسيسًا لحقيقة أعمق: أن الإنسان مهيأ للاختيار، ومُبتلى بالاختبار، وأنه يحمل في داخله القابلية للوقوع حتى لو كان في أحسن البيئات. لم يكن قبل آدم أحد ليقلّده، ولا جيل سابق ليحاكيه، ومع ذلك أخطأ، وأُهبط، وبدأ التاريخ. وهنا نكتشف أن الخطأ لا يحتاج تعليمًا، بل دافعًا، وأن السلوك قد ينبع من الداخل، قبل أن يصله أي مؤثر خارجي.
ثم جاء نوح، فظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين بلا كلل، ومع ذلك جاء الطوفان، وأفنى جيلًا بأكمله. وبمعايير القطيعة التاريخية، يُفترض أن الجيل التالي سيكون أكثر وعيًا، وأقل ميلًا إلى الخطأ. لكن العجب أن قوم عاد، الذين جاؤوا بعد الطوفان، أعادوا السلوك نفسه: استكبروا، وتجبّروا، وكذّبوا، فهلكوا. ثم تكررت الدورة مع ثمود، ومع فرعون، ومع قريش، ومع أمم لاحقة.
فكيف يتكرر السلوك إذا فني الجيل تمامًا؟
هنا تنكشف لنا حقيقة محورية:
السلوك البشري لا يتكرر لأنه متوارث بالذاكرة فقط، بل لأنه متجذّر في الطبيعة البشرية. وما دام الإنسان لم يراجع دوافعه، فإنه يسير بعينيه إلى الحفرة التي سقط فيها غيره. ومع تطور الأدوات لم تتغير الدوافع، بل ازدادت قدرة الإنسان على تغليفها.
فالطمع يُسمى طموحًا، والتبرير يُقدَّم كقراءة واقعية، والتسلّط يُسوّق بلباس يوهم بالحكمة والمسؤولية.
فإذا بالقديم يتجدد، لا لأنه لم يُفهم، بل لأنه لم يُعالَج بصدق ووعي. فالسلوك المتكرر ليس ضعفًا مطلقًا، بل نداء خفي لإعادة التوازن، حتى لا يتضخم الأنا، ولا يعلو الطبع فوق التكليف.
إن السلوك البشري لا يحتاج إلى كثير اختبار حين يواجه الرقابة. يتحول في لحظة من مستهتر إلى منضبط، ومن فوضوي إلى نظامي، إذا شعر أن هناك عينًا تراقبه. لكن في الظلام يتبدل وجهه، وكأن في داخله وحشًا لا يرضى بالقيد إلا مكرهًا. فالكاميرا قد تردع السلوك، لكنها لا تُهذّب النية. والرقابة قد تضبط التصرف، لكنها لا تصلح القلب.
ولهذا، كانت أعظم الرقابات هي رقابة النفس، لا رقابة الأجهزة. ولأن الإنسان يدرك في قرارة نفسه أن الرادع الداخلي لا يكفي، فقد شرّع عبر التاريخ أعنف العقوبات في أحب ما يملك: النفس والمال. فهو حين يعجز عن ضبط نفسه، هناك رادع أشد، فالتجربة أرشدته إلى صياغة قانون يكون فيه الردع إن لم تردعه الفطرة وواعظ الضمير.
حتى يهذّب القانون ولا يُبرّر، ويقوّم لا يُقنّن، لا بد أن يقوم على أربعة أركان:
العدالة، فهي روح القانون ومعناه. لا يُبنى حق على ظلم، ولا تُصان كرامة بمكيالين. والمشروعية، بأن ينبع القانون من مرجعية تقبلها الفطرة والعقل. ثم الوضوح، فالغموض يُربك الفهم، ويُتيح المجال لتفسيرات متباينة قد تُوظف على غير مقصده.
وأخيرًا القابلية للتطبيق، فلا نفع لقانون يبقى حبرًا على ورق، أو يُطبق على البعض دون غيرهم.
وبهذه الأركان، يصبح القانون حارسًا للكرامة، لا ساترًا للهوى.
ويستقيم سلوك الإنسان حين يجد بين النص والنية وئامًا لا خصامًا.
حتى النية، وإن خفيت عن الناس، تُترجم إلى نتائج لا تخطئها الفطرة.
فكم من أمرٍ تغيّر طعمه لا لأن الواقع تبدّل، بل لأن النية انحرفت.
وكأن السلوك ليس ما نفعله فقط، بل ما ننويه قبل أن نفعل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال