الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا شك أننا جميعًا في المملكة – مثل كثير من الشعوب الأخرى حول العالم – نلمس مدى فداحة التأثيرات الدراماتيكية الناتجة عن تغير المناخ، وارتفاع حرارة كوكب الأرض، حيث تزايدت حوادث الحرائق باستمرار في السنوات الأخيرة، وبحسب ما ورد في التقرير الإحصائي السنوي المنشور للمديرية العامة للدفاع المدني لعام ١٤٤٠ه (الموافق ٢٠١٩م) بلغ عدد حوادث الحرائق في المملكة في ذلك العام (42,018) وقد اندلعت لأسباب مختلفة، وبالطبع باشرت أجهزة الدفاع المدني إطفائها فور الإبلاغ عنها.
ولا تقتصر زيادة حوادث الحرائق على منطقة بعينها، بل يشمل ذلك جميع أنحاء العالم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فوفقًا لصحيفة (اليوم السابع) المصرية تشير الإحصاءات إلى أنه تم تسجيل عدد (53,620) حريقًا في غابات الأمازون في عام 2024م وحده، أي أكثر بنسبة 80٪ مقارنةً بعدد الحرائق في عام 2023م، حيث تم تسجيل (29,826) حريقًا حينها، ولا يخفى على أحد مدى فداحة الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية التي تسببها الحرائق في المدن العصرية المزدحمة بالسكان، وخصوصًا تلك المدن الكبرى المكتظة بالسكان، والحافلة بالكثير من الأنشطة والفعاليات السكانية المتنوعة.
وفي الحقيقة يأتي المقترح الذي تقدّمت به مجموعة (كراش) برئاسة الزميل المستشار عبدالهادي القرني بشأن إنشاء “مركز وطني للحرائق” – يمثل نقلةً نوعيةً متميزةً، وفهمًا عميقًا لتحديات الواقع الميداني، وضرورة استراتيجية لتعزيز منظومة السلامة الوطنية، وحماية الأرواح والممتلكات والبيئة بصفة عامة في المملكة العربية السعودية.
ومن واقع خبرتي كضابط متقاعد من الدفاع المدني، أرى أن إنشاء مثل هذا المركز بات ضرورة وطنية مُلحة، خصوصًا وأنه سوف يسد ثغرة مهمة، بل فجوة كبيرة في إدارة مخاطر الحرائق، ولن يكون مجرد مبادرة تنظيمية نظرية وحسب!! فطبيعة المخاطر في المملكة، سواء تلك المرتبطة بالمناخ أو بنمط التمدد العمراني أو النشاط الصناعي الذي تشهده مدن المملكة الحديثة مضطردة النمو، تستوجب وجود كيان مركزي يُعنى بإدارة ملف الحرائق من خلال نهج علمي منهجي يعتمد على تحليل البيانات الإحصائية، وتكامل الجهود، واستثمار المعرفة التقنية الحديثة.
ويتمثل أحد أبرز أدوار هذا (المركز المنتظر) في تحليل بيانات الحوادث ودمج القدرات التقنية، وتوظيف البيانات الإحصائية المتقدمة، وربطها باشتراطات الكود السعودي للبناء (SBC)، وتقييم مدى توافق هذه الاشتراطات مع بيئتنا وعاداتنا ومناخنا المحلي، وهو أمر بالغ الأهمية – في تصوري – لضمان فعالية نُظم الوقاية، بالإضافة إلى تطوير خطط وقائية تعتمد على نُظم استشعار متطورة قادرة على توقع حدوث المخاطر والتنبؤ بها ورصدها قبل وقوعها.
كما سيُعنى المركز بالطبع بجمع وتحليل البيانات المتوفرة لدى الدفاع المدني السعودي لأكثر من أربعين عامًا من مختلف الحوادث على مستوى المملكة، مما يتيح بناء قاعدة بيانات وطنية موحَّدة ومتخصصة في هذا المجال، وسوف تُسهم في فهم أنماط حوادث الحريق وأسبابها وتكرارها، وربطها بالعوامل البيئية والاجتماعية والإنشائية. وهذا الجانب، كما أشار المقترح، لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مركز مختص يُوحِّد البيانات ويحوّلها إلى معرفة قابلة للتنفيذ، ويُسهم في وضع سياسات استباقية مدروسة، وسيعمل كذلك على رصد نتائج التحقيقات والدروس المستفادة، وإجراء مقارنات محلية ودولية للاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال.
وأعتقد أن هذا المركز المنتظر سيلعب دورًا وطنيًّا مهمًّا في تنمية وتدريب الكفاءات الوطنية، وذلك من خلال تقديم برامج تدريبية فعَّالة ومتخصصة، وتطوير سبل تدريبة تقدم محاكاة ميدانية فعلية لما يكون موجودًا في أرض الواقع، إلى جانب دعم إنشاء كليات وأكاديميات متخصصة في مكافحة الحرائق، وبالبحث والتطوير والتدريب والوقاية المسبقة، بما يعزز جاهزية الكوادر للتعامل مع مختلف أنواع الحرائق، سواء في المباني والمنشآت أو في الغابات والمناطق الجافة.
وسيسهم هذا المركز أيضًا في رفع الوعي المجتمعي فيما يتعلق بثقافة الوقاية والتصرف السليم أثناء الطوارئ، وتعزيز الشراكة مع الفرق التطوعية والقطاع الخاص، وتنظيم المؤتمرات وورش العمل محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
وعلى الصعيد البيئي (والإيكولوجي)، فلا شك أنه سيكون لهذا المركز دورٌ فاعلٌ في حماية الغطاء النباتي والتنوع البيولوجي، والتقليل من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن الحرائق، وهو ما ينسجم مع أهداف المملكة في الاستدامة البيئية ضمن رؤية 2030.
ومن التوصيات العلمية التي ينبغي التنويه إليها هنا أنه لا بد أن يُبنى المركز على أسس علمية محددة، ويكون له حوكمة واضحة، تنظِّم طبيعةَ وماهيةَ عمله، كما أعتقد أن هذا المركز لابد أن يرتبط تنظيميًا بمجلس أعلى للسلامة الوطنية، وأن يُتاح له الدعم الفني والتقني اللازم من المراكز المهنية والبحثية المماثلة سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، ومن الأمور البديهية التي تجدر الإشارة إليها هنا أن مركزًا بهذا الحجم والأهمية التي نتحدث عنها لابد أن يُخصص له تمويل مستدام نظرًا لأهمية الدور الوقائي الذي سيضطلع به، مما يسهم في تقليل الخسائر الاقتصادية.
ختامًا، أؤكد أن إنشاء “المركز الوطني للحرائق” يعد في نظر الكثيرين – لاسيما المتخصصين – خطوة جريئة نحو إحداث نقلة نوعية في إدارة الكوارث والوقاية منها، ويُعد هذا المركز أحد الاستحقاقات المستقبلية التي تتوافق مع رؤية المملكة 2030 في بناء مجتمع آمن وواعي ومستعد، وأدعو هنا الجهات المختصة (المديرية العامة الدفاع المدني، والبيئة، والبلديات، والأمن العام) إلى تعزيز التكامل فيما بينها، وتبنّي هذا المشروع لكونه مشروعًا وطنيًّا حيويًّا سيكون له بالغ الأثر في تقليل الخسائر، ورفع الجاهزية، وتطوير بيئة آمنة ومستدامة في المجتمع السعودي الذي ينمو ويتطور بسرعة مدهشة أذهلت العالم أجمع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال