الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يسبق أن دخل اختراع بشري إلى حياة الناس دون أن يصاحبه شيء من الرفض أو القلق أو التندر. كأن الإنسان خُلق وفي قلبه بذرة من الشك تجاه كل جديد، حتى إذا رأى التقنية تطرق بابه مُرحبًا بها بادئ الأمر، ما لبث أن يرفع حاجبيه دهشةً، ثم يبدأ بتحسس رأسه خوفًا من فقدان موقعه المتخيل على قمة الهرم الكوني.
منذ أيام قليلة، وأنا أتصفح منشورات منصة لينكدإن، استوقفتني تعليقات ساخرة كثيرة على ما يُسمّى بـ”كتّاب جي بي تي”. تلك التسمية التي أطلقها البعض تهكمًا على الذين يعتمدون على نماذج الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقالاتهم ومحتواهم الفكري. وهذه التسمية ليست سوى تعبير بسيط عن ظاهرة عميقة تستحق أن نُسلّط عليها شيئًا من الضوء.
يُقال إن الغرور، في جوهره، هو خوف عميق من الفشل. ربما كانت هذه العبارة هي أفضل وصف للمقاومة النفسية والاجتماعية التي يبديها البشر تجاه الذكاء الاصطناعي. فالإنسان الذي ألِف التفوق في مجالات الفكر والإبداع على مدار قرون، وجد نفسه فجأة أمام آلة تهدد هذه المكانة، فشعر بما يشعر به الرجل الذي ظنّ نفسه فارسًا مغوارًا، حتى فوجئ بفرس دون فارس يتفوق عليه في المضمار.
وإذا تأملنا التاريخ جيدًا، سنجد أن هذا ليس بجديد، فها هم عمال النسيج في بريطانيا القرن التاسع عشر يُحطمون الآلات التي اعتقدوا أنها جاءت لتسرق منهم عرق جبينهم ومهارة أياديهم. لكن الزمن، الذي لا يرحم ولا يجامل، أثبت لهم أن تلك الآلات لم تأتِ لتقضي على الإنسان، بل لتمنحه فرصة أوسع للإبداع والابتكار. هكذا كان الحال مع كل تقنية ظهرت، من الطباعة إلى الكهرباء إلى الحاسوب، فلماذا يكون الذكاء الاصطناعي استثناءً؟
وفي الواقع، إنني أرى أن الخلل ليس في التقنية، بل فينا نحن الذين لم نتقن بعدُ كيفية استخدامها. إن الذكاء الاصطناعي، مثله مثل تلك الآلة النسيجية القديمة، يحتاج إلى من يوجهه بحكمة وذكاء. هنا تحديدًا يكمن جوهر الأمر: “هندسة البُرمبت”، تلك المهارة الجديدة التي تجعل من مستخدم الذكاء الاصطناعي مبدعًا حقيقيًا أو مجرد مقلّد رديء. والمشكلة أن كثيرًا من المستخدمين لا يزالون يتعاملون مع هذه التقنية بطريقة بدائية سطحية، فيخرج من بين أيديهم محتوى يشبه إلى حد بعيد قصاصات الورق الملقاة هنا وهناك، محتوى يخلو من الروح، يثير الملل قبل أن يُثير الشك.
الدراسات الحديثة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي، حين يُدار بذكاء، يُمكنه إنتاج محتوى لا يقل جودة وإبداعًا عن ذاك الذي ينتجه الإنسان وحده، بل إنه في بعض الأحيان قد يتفوق عليه في الدقة والثراء. لكن هذا الأمر مرهون بشكل أساسي بمهارة المستخدم وقدرته على صياغة تعليمات دقيقة وواضحة تُخرج من الذكاء الاصطناعي أفضل ما لديه من إمكانيات كامنة.
هنا تحديدًا يبرز موقف المؤسسات الأكاديمية والجامعات التي لا تزال تعتبر استخدام الطلاب للذكاء الاصطناعي نوعًا من الغش، وهو أمر غريب فعلًا، فهل يمكن اعتبار استخدام الطالب لآلة حاسبة في الرياضيات أو لكتاب مفتوح في الامتحانات غشًا؟ إن النظرة التقليدية التي ترى الذكاء الاصطناعي خطرًا يهدد جودة التعليم تحتاج إلى مراجعة. في الواقع، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أستاذًا مساعدًا يشرح للطالب المفاهيم المعقدة، ويساعده في صياغة الأفكار وتطوير البحث العلمي.
الأكاديميون الذين يرفضون تبني هذه التقنية يشبهون إلى حد كبير من كانوا يرفضون منهجية الكتاب المفتوح في الاختبارات، متجاهلين حقيقة أن المعرفة لم تعد محصورة في استظهار المعلومة بل في القدرة على تحليلها وتوظيفها بشكل صحيح. ما الفائدة من أن يقضي الطالب مئات الساعات في قراءة أبحاث ومقالات وهو قادر على الوصول إلى المعلومات بسهولة والتحقق منها بنفسه عبر الأدوات الرقمية الحديثة؟
ربما لا يدرك هؤلاء الأكاديميون أننا مازلنا في بداية الطريق، وأن الأدوات القادمة ستكون أكثر عمقًا وتعقيدًا، وربما تصل إلى مرحلة يمكن فيها الاستغناء عن كثير من وظائفهم إذا لم يتعاملوا معها بحكمة ويجعلوها جزءًا من استراتيجياتهم التعليمية والبحثية. إن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للتعليم، بل هو أداة تعليمية قوية تستطيع رفع جودة التعليم والبحث العلمي إذا ما أحسن استخدامها.
في النهاية، إن المقاومة البشرية التقليدية للتكنولوجيا غالبًا ما تكون مبنية على أوهام أكثر منها على حقائق. فمثلما أدرك عمال النسيج أن جودة العمل ليست مرتبطة بالجهد اليدوي فقط، بل بذكاء الإنسان في توجيه الآلة واستخدامها، فإن على المؤسسات التعليمية أن تدرك أن مستقبل التعليم ليس في مقاومة الذكاء الاصطناعي بل في تبنيه والاستفادة منه.
وكما أثبت التاريخ مرارًا، المستقبل دائمًا في صف من يتبنون الجديد ويجيدون التعامل معه، وليس في صف أولئك الذين يخافونه أو يحاربونه بلا سبب سوى الخوف القديم الذي لا يريد أن يغادر قلوب البشر. وربما كان من الجميل أن نتذكر دائمًا: الإنسان هو سيد التقنية، وليس العكس.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال