الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتفق عموم الناس بأن البحث العلمي هو الداعم القوي لنهضة أي مجتمع، ولكن مما لاشك فيه أن البحث العلمي في العالم العربي بشكل عام ينجز لأجل الارتقاء في السلم الوظيفي أو للحصول على الدرجات العلمية أو لتحسين التصنيف المحلي والدولي للجامعات…، وليس لهدف الابتكار والابداع أو صياغة مستقبل المجتمع وتحسين مستوى المعيشة…، بينما نجد أن البحث العلمي في خارج العالم العربي وسيلةً لتحقيق تأثير عميق على المجتمع سواء كان هذا التأثير اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو تشريعياً أو ثقافياً ويوفر فرص عمل… الخ؛ حيث يقاس نجاح البحث حسب درجة تأثيره، فنجد مثلاً أن كوريا الجنوبية قد دعمت البحث العلمي ونهضت؛ مما جعلها تقفز قفزات جبارة رغم ان اقتصادها كان ضعيفاً جداً حتى الى وقت قريب، كل ذلك يجعلنا ننادي بضرورة إعادة النظر في اطار برنامج متكامل للنهوض بمستقبل البحث العلمي، ولقد سمعنا مؤخراً عن إقرار نظام الجامعات الجديد وهو تحول استراتيجي نحو استقلالية الجامعات، أنا شخصياً سعيد جداً بمثل هذا الخبر؛ ولكنني في نفس الوقت لا اعتقد أن تحولاً مثل هذا سيكون سهلاً لأن البيئة الجامعية في كل جامعاتنا قد اعتادت على مركزية القرار وثقافة “الاستبداد الأكاديمي” والاتكالية المطلقة على الوزارة، فضلاً عن القيود المالية والإدارية داخل الجامعات، والأسئلة المطروحة هنا هي: هل ستعمل استقلالية الجامعات على حل إشكاليات العمل الأكاديمي والبحثي فيها؟ أم أنها ستزيد وطأة الألم؟ وهل سيكون من السهل تشكيل مجلس أمناء مستقل بحيث تتحول الجامعات الى مؤسسات مستقلة تدير نفسها بنفسها بجوانبها الثلاث: الإدارية والمالية والأكاديمية من دون أي تأثير مباشر من الحكومة أو حتى من المؤسسات الدينية؟ هل سيسهل حصول الجامعة على دخل إضافي بعيدا عن دعم الدولة وفي نفس الوقت تتقدم بالعلم والبحث والتطوير وخدمة المجتمع؟ … إلخ، ما زال مفهوم الاستقلال لدينا غير واضح المعالم وهناك ضعف في آليات التطبيق، ولذلك يتعين علينا وضع تصورٍ متكاملٍ ومناسبٍ لمفهوم استقلال الجامعات بهدف تقديم مناخٍ تعليمي وإداري أفضل، كنت قد تناولت في مقالةٍ سابقةٍ أوجه القصور في المراكز البحثية وسبل تحسينها، واليوم أريد إعادة تسليط الضوء مرة أخرىً حاصراً أهم الإشكالات والمعوقات -من وجهة نظري- حول المجال الأكاديمي في المملكة ونشاط الأبحاث بصفة خاصة والتي بعضها لم أسبق أن تحدثت عنها، وماهي أهم الملاحظات حول الاستقلال، لعلنا نخرج بتوصيات هادفة ترفع من كفاءة وأداء الجامعات في بلدنا والا لن تكون ثمة فائدة مرجوة من هذا الاستقلال.
أولاً: إن استقلال الجامعات يتطلب قبل كل شيء أن تكون لديها القدرة المالية الكافية على التشغيل الذاتي، وهذا بدوره يجبر الجامعات على ضرورة إيجاد مواردٍ مالية مستقلةٍ مثل الأصول والاستثمارات والأوقاف والمحافظ الاستثمارية الضخمة…التي توفر عوائد وسيولة مالية سنوية، مما يجعلنا نتساءل: كيف نحصل على كل ذلك بشكل سريع؟ وهل لدينا الكفاءات الإدارية المتميزة لمواجهة مثل هذا التحدي الصعب؟ إذا كان الوضع الحالي -وهو ما قبل الاستقلال- يواجه نقص الدعم الحكومي المتمثل في “سياسة التقشف”؛ فكيف سيكون الحال لما بعد الاستقلال؟ لاشك بأن الدعم السخي للجامعات هو عامل مهم في نجاحها، ولذلك لا يمكن لأي جامعة مهما كانت عقليات أساتذتها أن تُبدِع في البحث العلمي وهي أسيرة التعويل المالي المقتصر من الوزارة والتي تتعامل مع الأبحاث “كبنود تكاليف” وليس كفرص استثمارية، وأن يعامل الباحث كموظف حكومي وليس كخبير، يجب أن يتم النظر دائماً للتعليم والبحث العلمي كاستثمار للبلد وليس كتكاليف مرهقة، كنموذج عمل ناجح على ذلك هو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والتي لعبت دورا مختلفاً تماماً عن باقي الجامعات في السعودية بسبب وجود الاستقلال المالي والإداري لديها؛ فتستطيع أن تنفق الجامعة ميزانيتها دونما أي تدخل من وزارة التعليم أو المالية، ويستطيع أن ينفق الباحث في دعم البحوث دون تدخل الجامعة، لذلك فإن كل ما أخشاه هو أن تنهار وتضعف الجامعات بعد الاستقلال خاصة أنها غير متهيئة بعد للاعتماد على نفسها مالياً ولم يكن الدعم الحكومي كافياً منذ البداية، أيضاً مازال يوجد لدينا ضعفٌ في دعم الشركات، فلا تزال علاقة الجامعات بالصناعة ضعيفة ومتواضعة، ولذلك يجب خلق ثقافةٍ بحثيةٍ واجتماعيةٍ وصناعيةٍ جديدةٍ؛ ويشمل ذلك تشجيع رجال الأعمال والمتبرعين من القطاع الخاص على استثمار أموالهم في الجامعات أسوة بالجامعات المرموقة دولياً.
ثانياً: يجب أن نقر بأننا نواجه ضعفاً واضحاً في قدرات كوادرنا الأكاديمية، فالأغلبية الساحقة قد التحقت بالجامعة من غير أبحاث ما بعد الدكتوراه وليس لهم رصيد بحثي يذكر ولا حتى خطة بحثية معتبرة، ومع بالغ الأسف فنحن نجد الأستاذ الجامعي قد أصبح منشغلاً في لجان كثيرة ثم يتولى مناصب إدارية كرئيس قسم أو عميد… رغم أنه ليس لديه أي خبرة أكاديمية أو إدارية تذكر، فالحصول على الدكتوراه لا يعني أن الشخص مؤهلٌ إداريا ليكون عميد أو رئيس قسم … إلخ، فينتج من ذلك نقصان في جودة الأبحاث وهشاشتها وبعدها كل البعد عن الأبداع العلمي؛ فمثلاً يتم نشر أبحاث في مجلات هزلية متدنية مما يجعلها لا تقدم أي دور مستقبلي للمجتمع لأنها بكل بساطة لا تسهم في مواجهه المشاكل التنموية ولا لإحداث تغيير أو ابتكار، والدليل على ذلك هو ضعف الاقتباسات العلمية، ولهذا أتساءل: ما فائدة صرف الأموال والوقت من هذه الأبحاث؟ فالنتيجة المتحصلة هي ثروة وطنية تهدر على صنع مجموعة من الأوراق التي تستودع في الرفوف “رهينة الأدراج”؛ ولذلك ليس لها نتائج ملموسة في حل العديد من المشكلات التي تواجه البلد، ولذلك يجب أن نشجع على جودة الأبحاث لكي تحاكي تحديات البلد وتتماشى مع الرؤية الوطنية ٢٠٣٠، سمعنا أيضاً عن انتشار ظاهرة السرقات العلمية كالمكاتب التي تقوم بكتابة البحث العلمي، فبعض أعضاء هيئة التدريس وبكل صفاقة يقوم بنشر أبحاث تم كتابتها من قبل باحثين اخرين والهدف هو الترقي الوظيفي فقط بغض النظر إذا كانت بأسلوب السرقة أو لا، من هذا المنطلق أدعو الى الاستغناء فوراً عن أي عضو من أعضاء هيئة التدريس إذا ثبت أنه لم يقدم إنتاجا بحثيا نشطاً خلال ٤-٦ سنوات من تعيينه، كيف نقبل بدكتور يمكث بالجامعة أكثر من عشرين سنة وهو مازال في درجة (أستاذ مساعد)! يجب أن تشكل لجنة لكل دكتور يسعى الى الترقية لتقييم أداءه بالجامعة وترى اذا كان يستحق الترقية أو يتم إعطائه فرصة أخرى أو حتى الاستغناء عن خدماته، وهو نظام متبع دوليا، أيضاً لتحسين حركة وجودة النشاط البحثي في الجامعة يجب استقطاب المواهب والكفاءات العلمية البارزة من شتى أنحاء العالم وليس فقط السعوديين من الأكاديميين والفنيين والاداريين والطلاب، يشمل ذلك قيام هذه الجامعات بتوسيع مشاركاتها وتعاونها البحثي مع المراكز النشيطة والفعالة محلياً أو خارجياً حتى تسهم في تحقيق التنمية المحلية وخدمة المجتمع في ظل التحديات الاقتصادية الصعبة، نحتاج أيضاً إلى تأهيل بعض الأساتذة في الموارد البشرية قبل تقليدهم للمناصب الادارية.
أكمل حديثي عن المعوقات والتحديات وما أبتغي وجوده وتفعيله من توصيات أخرى في المقال القادم بإذن المولى عز وجل.
———
balmangour@gmail.com
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال