الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بعد أن وصل فيروس كورونا إلى مستوى الجائحة الصحية على مستوى العالم وفق منظمة الصحة العالمية، فإنَّ عقود التجارة الدولية وغيرها من العقود التي يتراخى تنفيذها إلى ما بعد تاريخ إبرامها قد أثَّر الفيروس على استمرارها.
حيث إنَّ قدرة كلا المتعاقدين على تنفيذ التزاماتهما تجاه بعضهما البعض تتأثَّر في العقود التي يَدخلُ الزمن عنصراً فيها؛ فيكون كلاهما راضِيَيْن عن بنود العقد على اعتبار أنَّ الأمور ستسير بالشكل الطبيعي للحياة.
إلاَّ أنَّ وضعاً استثنائياً قد طرأ جعل من الاستمرار في تنفيذ العقد مستحيلاً أو فيه تكاليف زائدة على أحد الطرفين لم تكن في حسبانه إبَّان توقيع العقد.
وبالمقابل، فقد يَتَمسَّك أحد المتعاقدين بوقوع الجائحة، فيقوم بتضخيم صورتها وآثارها عليه بغرض التهرُّب من التزاماته التعاقدية، حيث يُصوِّر للطرف الآخر أنَّ تنفيذ التزامه قد أضحى مستحيلاً بعد وقوع الجائحة، في الوقت الذي يكون فيه قَادِرَاً على إيجاد الكثير من الحلول لإنقاذ العقد حتى في ظلِّ الجائحة، إلاَّ أنَّ هذا المتعاقد يكون راغباً بإنهاء العقد وعدم تنفيذ التزاماته بسوء نيةٍ.
فكيف سيواجه القضاء هذه الإشكالية؟
لا يوجد في المملكة نصٌّ عامٌّ وشاملٌ لحالات القوة القاهرة التي تجعل من تنفيذ العقد مستحيلاً بسبب الظروف العامة، ولا يوجد أيضاً نصٌّ صريحٌ وعامٌ لحالات الظروف الطارئة التي يكون من آثارها التخفيف من التزامات المتعاقدين بفعل هذه الظروف.
ولذلك، لا بدَّ من الرجوع لقواعد الشريعة الإسلامية الحنيفة، حيث نجد الحديث الشريف: “لو بِعتَ من أخيك ثمراً، فأصابَته جائحة، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئاً، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟”.
فإذاً، أكَّد لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أنَّ وقوع الجائحة تُؤثِّر في إمكانية إلزام متعاقدٍ لآخرَ بتنفيذ بنود العقد الذي يربطهما، لكن ذلك مشروطٌ وفقاً للغاية من هذه القاعدة الاستثنائية بأن تكون الجائحة كما يلي:
1- جائحة خارجية؛ حيث إنَّ قاعدة الجائحة الواردة في الحديث الشريف تؤدِّي إلى الإعفاء من الالتزام بالنظر لوقوع الجائحة الخارجية بحد ذاتها فقط، كما هي جائحة كورونا.
فلا يمكن لأحد المتعاقدين أن يتحلَّل من التزاماته بسبب جائحةٍ نتجت عن سبب من داخل العقد، كأن يُخطئَ أحد المتعاقدين على توريد الدواجن، حيث يقوم بتعريضها إلى ظروف طقسٍ لا تُناسبها نظراً لجهله ممَّا يتسبَّب بنفوق أعدادٍ منها، فهنا الجائحة لم تكنْ خارجيةً بل داخليةً ناتجةً عن خطأ أحد المتعاقدين.
2- جائحة عامة؛ أي تمس عموم الناس دون تفريق أو تمييز؛ فلا يحقُّ للمتعاقد أن يحتجَّ بوجود نزاعٍ عائليٍّ خاصٍّ بعائلته أو عشيرته ممَّا جعل من تنفيذه لالتزامات العقد مستحيلاً، فهذه الظروف تبقى خاصَّةً بالمتعاقد، في حين أنَّ معنى الجائحة لا ينطبق إلاَّ على العموم.
وعلى اعتبار أنَّ فيروس كورونا هو في حقيقته جائحةً عالميةً، فإنَّ توصيفه على أنَّه جائحة وفق الحديث الشريف هو توصيفٌ دقيقٌ.
3- جائحة قاهرة؛ أي التي لا يمكن للإنسان تفاديها فتقهر إرادته، والإنسان المقصود هو الإنسان العادي، أمَّا إن كانت درجة قوَّة الجائحة تختلف من مكان لآخر ومن وقت لآخر ومن شخص لآخر؛ فلا يصحُّ إطلاق صفة القاهرة عليها بشكل مطلق بل نسبي وفق الظروف، وجائحة كورونا هي جائحة قاهرة بشكل نسبي وفق الظروف.
حيث إنَّ فيروس كورونا يُعتبَرُ جائحةً قاهرةً بالنسبة للمناطق التي تخضعُ لحظر التجول مثلاً إذا كان العقد يتضمَّن توريد بضائع، ولكن ذلك ليس مطلقاً ودائماً وإنَّما خلال أوقات حظر التجول؛ وبالتالي فإنَّ المورِّد لا يُعفَى من التزامه بالتوريد، ولكن يمكن التسامح معه بتأخير التوريد إلى حين انقضاء فترة حظر التجوُّل فقط.
كما أنَّ جائحة كورونا لم تطال العمل عن بعد عبر شبكة الإنترنت، فإذا كانت إحدى شركات المحاماة متعاقدةً مع جهةٍ أخرى على تقديم استشاراتٍ بخصوص عقودٍ معيَّنةٍ، فلا يمكن إعفاء شركة المحاماة من التزاماتها؛ حيث إنَّ كادرها قادرٌ على دراسة العقود وإرسال الاستشارة عبر البريد الالكتروني دون اجتماعات أو تعرُّض لأيٍّ من المخاطر، ودون أي خرقٍ لحالة منع التجوُّل.
4- جائحة غير مترافقة بإهمال؛ فالمتعاقد الذي يُعلِّقُ على الجائحة إهماله بتنفيذ الالتزام لا يحقُّ له المطالبة بإسقاط التزامه بموجب العقد، وطالما أنَّ جائحة كورونا ليست مطلقةً من حيث كونها قاهرةً كما قلنا، فإنَّ وقوعَ صور للإهمال المترافِق معها أمرٌ واردٌ.
فقد يكون التاجر المُصَدِّر للأجهزة الكهربائية الصينية متأخِّراً بتجهيزها، فيمكنه أن يتحجَّج بأنَّ المواصلات الجوية والبرية من وإلى الصين قد انقطعت في الوقت الذي لم ينص العقد على طريقة نقل البضائع. فهنا كان يمكن للمُصدِّر -إن كان حسن النية- أن يُسارِعَ إلى نقل البضائع عبر البحر قبل إغلاق الموانئ مثلاً، ولكنَّه وجد من الجائحة فرصةً للتهرُّب من التزامه.
ففي مثل هذه الحالات التي تَتَرافَقُ بإهمالٍ وسوء نيةٍ لا يصحُّ الحديث عن تطبيق قاعدة الجائحة وفق الشريعة الإسلامية كما وردت على لسان الرسول الأعظم؛ لأنَّ الغاية من هذه القاعدة تتنافى مع مساهمة أحد طرفي العقد بوقوع الضرر بالمتعاقد الآخر نتيجة إهماله.
وبالنتيجة، فإنَّ قاعدة الجائحة الوارِدَة بالحديث الشريف تتطلَّب ببساطةٍ وقوع ظروفٍ عامةٍ استثنائيةٍ مفاجئةٍ تفوقُ قدر الإرادة البشرية على تحمُّلها أو تجاوزها.
بناءً على هذا التفسير الضيِّق وفي حدوده فقط يمكننا تفسير كيف يُعتبرُ فيروس كورونا جائحةً على مستوى العقود؛ ولذلك يجب الحذر من انتشار حالات سوء النية المرافقة مع انتشار هذا الفيروس، حيث إنَّ التساهل مع المتعاقدين في خرق التزاماتهم سيضرُّ بالثقة العامة بين الناس وسيأتي على حركة التجارة والمعاملات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال