الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
توالت الأخبار خلال الأيام القليلة الماضية عن إعلان هيئة الرقابة ومكافحة الفساد عن 227 قضية جنائية متعلقة بجرائم الفساد المالي و الإداري. وتم الإفصاح عن قضية أطرافها موظفين في بلدية احدى مناطق المملكة، الذين بدورهم يشغلون وظائف من رتب مختلفة، وهذا تجسيد صارخ لما يسمى بتطبيع الفساد المؤسسي، وتكوين جماعات الضغط أو بالعامية “الشللية”، فشكرا لدولة عظيمة همتها لمكافحة الفساد تعانق قمم جبال طويق، تسعى بشكل جاد لتفكيك هذه الجماعات التي تعيق تقدم الدولة لبناء مجتمع أكثر نزاهة واحترافية في أداء العمل، وشكرا لهيئة الرقابة ومكافحة الفساد لعملها الجاد والدؤوب من ناحية، واعلانها عن مثل هذه القضية في هذا الوقت لاستخدامها في شرح عملية تطبيع الفساد المؤسسي من ناحية اخرى.
عندما يتحول الفساد من مجرد عمل فردي الى عمل مؤسسي، فهذا يعني ان كل من يعمل في هذه المؤسسة سيتأثر بالنسيج الاجتماعي لها، لأن أعمال التحايل والتلاعب ستكون روتين عمل يومي وليس موضوعا خارجا عن المألوف. فعند توظيف موظف حديث التخرج لا يملك خبرات سابقة في مجال العمل ولا التلاعب بالنظام ولا التحايل بالشكل الجاري في المؤسسة، إن كان هذا الموظف ذا وعي عالي، قد يستهجن بعض اوامر مدرائه أو يستهجن طريقة زملائه في العمل، ولكن بعد مدة ليست بطويلة سيدخل في المنطقة الرمادية، المنطقة التي يختلط عليه فيها ما إذا كان ما يقومون به زملائه عمل مشروع أم لا، مع مرور الوقت سيرى أن عملية التلاعب هي من واجباته الوظيفية ومسئولياته العملية، ولا يستطيع رفض أداء العمل لانه يخشى الخساره المادية أو المعنوية كالفصل من العمل أو النبذ من قبل زملائه العاملين، او لأنه بدأ يجني أرباح نتيجة المساعدة في انجاز هذه المهام، أرباح مادية او معنوية أيضاً و هنا قد يكون متواطئاً مع من يرأسه، وبهذه الطريقة تنهار ركائز المؤسسة في طريق المحافظة على أموالها وجودة انتاجيتها وسمعتها في السوق وهذا ما يسمى بنقطة slippery slope حيث أن الإنسان عندما تنزلق قدمه وهو في منحدر، سوف يستمر بالتدحرج والسقوط بقوة ليصل الى القاع. وهذا ما حصل مع الرؤساء التنفيذين و موظفيهم لشركة The Kurzweil Applied Intelligence.
في عام 1993، قرر الرئيس التنفيذي ومعاونه طرح هذه الشركة في سوق الاسهم الامريكي، لجعل قوائم الايرادات اكثر اغراء للمستثمرين، فتم توجيه الموظفين في قسم المحاسبة والمستودعات، بأنه إذا تم طلب منتجاتهم قبل صدور القوائم المالية للربع السنوي بأيام قليلة، يتم تسجيله كعملية بيع تامة و منجزة وهي ليست كذلك، ويتم تأجيل توقيع العقد الى ما بعد إصدار القوائم المالية، بهدف تسجيل عملية البيع مرتين، مرة قبل إصدار القوائم ومره بعد إصدارها، للتحايل وإيهام المستثمرين بأن وضع الشركة المالي ممتاز وإيراداتها المالية عالية. هنا لا زلنا في المنطقة الرمادية سواء من حيث التأثير على الموظفين، حيث أن بعضهم يختلط عليه الأمر بمدى قانونية العمل، او من حيث انكشاف اللعبة حيث أن شركة المحاسبة لم تستطيع كشف التلاعب أنذاك بسبب أن العمليات غير واضحة.
بدأت لحظة الانهيار عندما اطمأن الرئيس التنفيذي ومعاونه للأمر، وكون شبكة من الموظفين الذين تم تدريبهم على إنجاز مثل هذه المهام وكأنها جزء من عملهم، فحدث الانهيار الحقيقي عندما انتقلت الشركة لتزوير توقيعات العملاء وإصدار فواتير وهمية، وهنا استطاعت شركة المحاسبة كشف اللعبة في 1994، وتمت محاكمتهم على جريمة التلاعب و الاحتيال التي جعلت المستثمرين يساهمون بمبلغ 24 مليون دولار لاعتقادهم انها شركة مستقرة وإيراداتها المالية عالية جدا.
المثير هنا أن عند التحقيقات تم الكشف ان بعض الموظفين الذين ساهموا في هذه الجريمة، لم يكونوا على دراية بذلك، وكان اعتقادهم منصرف إلى ان هذا هو عملهم وهذه هي وظيفتهم من حيث تسجيل المبيعات وشحنها وانهم ينفذون تعليمات رب العمل وهنا علامة صارخة لتكون الفساد المؤسسي. قضية مثل هذه، او قضية مثل التي كشفت عنها هيئة الرقابة و مكافحة الفساد والتي تم اكتشاف اختلاس مبالغ كبيرة بعشرات الملايين، الذين ساهموا بهذا العملية اشخاص كثر من دون دراية منهم، ولكن المستفيدين منها قلة، وهذه النقطة خطيرة جدا لأنها قد تقود المؤسسة لمرحلة تشريع الفساد بجعله عمل نظامي وقانوني، عن طريق إصدار لوائح و قرارات تحول العمل المجرم إلى عمل مشروع.
فقادة المؤسسة هنا ليسوا بحاجة فقط إلى شبكة علاقات، لأن هذا الامر لم يعد يكفي خصوصا أنه قد يتم محاسبتهم نظاميا، لذلك الحل هو إيجاد تشريعات تساعد على ممارسة الفساد وتجعل منه عملاً مشروعا والامثلة على ذلك كثيرة. في 2016 في رومانيا، كان هناك اتهامات لرئيس مجلس الوزراء بخصوص جرائم فساد مثل الرشوة والتزوير واساءة استخدام السلطة وابرزها كان التلاعب بقوائم رواتب الموظفين الحكوميين، لذلك أصدر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يرأسه نظام يمنع إتهام كبار المسئولين بجرائم الفساد المالي و الإداري. كذلك، الولايات المتحدة الأمريكية لديها نظام يسمح لأعضاء الكونغرس السابقين للعمل بعد فترة وجيزة كجماعات ضغط للتأثير على الآراء التشريعية التي تصب في صالح من يتبنى هذه الجماعة، وغيرها من الامثلة الكثيرة.
فأهمية نظرية تطبيع الفساد في المؤسسات واهمية فهمها يكمن في تحديد مواطن الخلل، فالفساد كالمرض القاتل الذي يصيب الإنسان، يشعر في البداية بالوهن والتعب، فيتجاهل هذا التعب باخذ مسكن، وبعد انتهاء مفعوله، يعود التعب ولكن بشكل أكبر ويظل هذا الجسد يعاني من الآلام ولا يعلم أين موطن العلة، فإذا ذهب إلى الطبيب واكتشف سبب المرض، فهنا تم التشخيص لإعطاء العلاج المناسب. الفساد مثله مثل المرض، لا يتم علاجة بالطريقة التقليدية، الأبحاث المنتشرة حول أسباب الفساد من حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي وغيره، قد تساهم في معرفة أسباب الفساد، لكنها ليست هي الأسباب الوحيدة، فهناك أسباب تتعلق بالبيئة التشريعية والادارية والثقافية بشكل دقيق ومفصل. لذلك، الفساد يتم استئصاله عند العثور على مسبباته الحقيقية. فأي مؤسسة تعاني من الفساد وتدرك ذلك وتسعى الى اجتثاثه، فهي تشن حرباً ضروساً كما تشنها بلادنا اليوم، فبارك الله هذا الوطن وقيادته وكل عام والمملكة العربية السعودية بألف خير.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال