الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
خلال الآونة الأخيرة، إزداد الحديث حول جريمة غسيل الأموال وهذا أمر طبيعي نظرا لما يترتب عليها من آثار سلبية لاحصر لها. فهي ليست اقتصادية فحسب، وإنما هي جريمة منظمة مستقلة تدعم جرائم اخرى حدثت في الظل، مثل تجارة المخدرات، بيع الاسلحة الغير مرخصة، السرقات و الاختلاسات المالية و الرشاوي، والدعارة، جمع التبرعات بطريقة غير رسمية…الخ. الخطر الأعظم من غسيل الاموال هو ذهاب اموال هذه المشاريع لدعم جرائم اقتصادية وامنية تهز اقتصاد الدولة و تهدد أمنها الوطني مثل دعم المنظمات الارهابية والميليشيات العسكرية. تعتبر البنوك احدى المؤسسات المالية التي قد تستغل لغسل هذه الاموال الغير مشروعة لتبدو وكأنها أموال مشروعة و نظيفة. لذلك يقع على عاتق البنوك مسئولية ذات بعد اقتصادي وأمني وسياسي تجاه دولها. خلال الأعوام الأخيرة، توارد إلى مسامعنا أخبار عن التحقيق في قضايا غسيل أموال تمت من خلال بنوك مختلفة حول العالم، بنوك تنتمي إلى دول ذات نظام مالي وقانوني واقتصادي قوي، مما يثير التساؤل الاستغراب.
حاليا، تُصنف بنوك بعض الدول الأوروبية بأنها أكثر بنوك العالم إستخداماً كأداة لعمليات غسيل الأموال. فتعتبر بريطانيا من الدول عالية المخاطر فيما يخص هذه الجريمة. على الرغم من الجهود التي بذلتها بريطانيا لمكافحة جريمة غسيل الأموال سواء كان ذلك عن طريق سن التشريعات أو الانضمام للاتفاقيات الدولية و إنشاء المركز الوطني للجرائم الاقتصادية، و التزامها بالمعايير الدولية لمكافحة هذه الجريمة مثل تطبيق متطلبات اعرف عميلك (KYC) وتقديم تقارير بالعمليات المشبوهة، إلا أن ذلك لم يمنع غسل تريليونات الجنيهات في بنوكها، وهذا ينطبق كذلك على دول متقدمة اخرى. يعود ذلك الى عدة اسباب منها تشريعية، ورقابية، وتقنية.
احدى الاسباب التي جعلت بريطانيا تصنف بانها الحلقة الأضعف في مكافحة جرائم غسيل الأموال هي الثغرات التشريعية في نظامها. في عام 2002، تم الحكم في قضية حدثت بين Shah v.HSBC ضد بنك HSBC . النظام البريطاني طالب البنوك منذ لك الوقت لتطبق معايير نظام مكافحة غسل الأموال ومتطلبات (KYC)، اتبع البنك هذه المعايير بالاضافة الى تطبيق قواعد نظام عائدات الجرائم والذي أشار الى تقديم تقرير بخصوص الاشتباه بحالات غسيل الأموال، وهذا ما فعله البنك وقام بإيقاف حساب Shah وتقديم بلاغ للجهات الحكومية المختصة إلى حين التأكد من الشكوك حول حركة الأموال في حسابه.
تم الحكم لمصلحة ال Shah بسبب اختراق سياسة الخصوصية في البنك بالإفصاح عن اسم العميل للجهات الحكومية، حيث فسرت المحكمة ان الشك يتفاوت بين كل انسان و آخر، وبالتالي لا يجوز الافصاح عن اسم العميل و تجميد حسابه من دون وجود أدلة قوية تثبت هذه الشكوك، وانه كان من المفترض لمنع تعرض البنك للمسؤولية المدنية تجاه المدعي Shah، ان يوقع البنك عميله على شروط تتعلق بتجميد حسابه و بالإفصاح عن معلوماته في حال وجود شبهة غسيل أموال.
هذه القضية تعتبر من السوابق القضائية التي تستخدمها المحاكم البريطانية في أحكامها والتي أغفلت فيها جزئية ضرورة حماية الطرف الثالث حسن النية ألا وهو البنك، فنظام عائدات الجرائم يطالب بالإفصاح في حالة الاشتباه بوجود جريمة اقتصادية. هذه القضية دفعت الكثير من البنوك الى التخوف من تقديم البلاغات ضد الحسابات المشبوهة لان البنوك اولاً، لا تريد خسارة عملائها لو حصل حالة اشتباه وتوقيعها على مثل هذا الاتفاق يجعل العميل يُفضل التعامل مع بنك آخر، بالإضافة إلى أن البنوك هناك لا تريد التعرض للمسئولية المدنية والتي يترتب عليها دفع تعويضات للمشتبه بهم وخسارة سمعة البنك من ناحية المحافظة على معلومات عملائه، خاصة ان البنوك لديها التزامات اتجاه عملائها و من غير المنطقي مطالبة البنوك بتقديم بلاغات بخصوص الشك والاشتباه بوجود شبهة غسيل اموال، حيث أن التأكد من ذلك ليس بتلك السهولة، وبالتالي عدم توفير الحماية النظامية للبنوك، تجعلها تفضل التغافل عن الحالات التي لا تملك اتجاهها ادلة مؤكدة. تلك الثغرة القانونية سمحت لتكون تكتلات من العاملين داخل البنوك تخدم مصالح المتورطين في جرائم غسيل الأموال مما جعل السيطرة على هذه العمليات الآن صعب.
في أبريل 2019، أصدرت الهيئة الرقابية المالية Financial Conduct Authority(FCA) ثاني أكبر غرامة مالية تصدرها بقيمة 102.2 مليون جنيه استرليني ضد بنك ستاندرد تشارترد (Standard Chartered Bank) فرع الإمارات، بسبب تجاوزات نظام مكافحة غسيل الأموال عندما تم اكتشاف ان هذا البنك قام بفتح حساب وإيداع مبلغ 500 ألف جنية استرليني من دون التحقق من مصدر هذه الاموال، وهذا فيه تجاهل لانظمة التحقق وراء العمليات المشبوهة. وهذه ليست هي المرة الأولى التي يتجاوز فيها بنك ستاندرد معايير التحقق من مصادر الأموال، حيث فشل في الالتزام بذلك منذ عام 2010 وتم تنبيهه بذلك لكن التجاوزات استمرت. يعود ذلك، حسب تقرير FCA ، ان البنوك عند رفعها لتقارير العمليات المشبوهة ، لا تحتوي على التفاصيل الكافية لاكتشاف مثل هذه العمليات، وأن تقديم هذه التقارير يتم التلاعب بها من قبل العاملين وتقديمها للجهات الرقابية كأسلوب وقائي ضد أي مساءلة بخصوص عدم الالتزام بأنظمة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب و منع التحايل.
بالاضافة الى مسألة التلاعب بالانظمة واستغلال الثغرات القانونية لدعم عمليات الاحتيال لغسل الامول، كذلك الثغرات التقنية تستغل لتسهيل عملية غسيل الاموال. فعلى سبيل المثال، في عام 2018 دفع بنك الكومنولث – اكبر بنوك استراليا- غرامة قيمتها 700 مليون دولار استرالي بسبب عدم ابلاغ البنك السلطات المختصة عن 53 الف تحويل مشبوه. واحتج البنك في موضوع فشله بالالتزام بواجبه بالتبليغ عن الحالات التي يشتبه تورطها بغسيل الاموال، الى خطأ التكنولوجيا و المتمثل في الاجهزة التي تكشف عن مثل هذه التحويلات. السؤال، هل فعلا السبب هو فشل التكنولوجيا في التنبية عن هذه المعاملات، ام ان هناك من تلاعب بالتكنولوجيا لتسهيل العمليات المشبوهة.
القصص والأمثلة على فشل بنوك عالمية في الالتزام والإفصاح عن حالات الاشتباه بغسل الأموال كثيرة جدا. الهدف من سردها ليس فقط ثقافة أو متعة ذهنية بقدر ما تكون دروس يُتعلم منها لتفادي الوقوع في مثل هذه التجاوزات. البنوك قطاع هام جدا في اقتصاد أي دولة، لذلك، فكما يحتاج هذا القطاع الى الرقابة الشديدة، كذلك يحتاج الى الحماية القانونية له كأشخاص معنوية، والى حماية العاملين في إدارات الالتزام و مكافحة جرائم غسيل الأموال للوصول الى قطاع مصرفي قوي يصعب اختراقه واستغلاله ضد أمن الدولة وأمن اقتصادها ومجتمعها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال