الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يمثل إعلان ارامكو السعودية الأخير لجدوى استخراج الغاز الطبيعي من حقل الجافورة باحتياطاته الهائلة آفاقا اقتصادية وجيوسياسية كبيرة للمملكة، فهو اضافة كبيرة على الاحتياطيات القائمة، وسيحرر استهلاك النفط في قطاع توليد الكهرباء المحلي كليا لتعزيز طاقة التصدير الاحتياطية للنفط، كما انه يمنح المملكة سلعة ذات قيمة مضافة وبعد جيوسياسي عميق.
فهل يمكن للمملكة أن تكون لاعباً رئيسياً في أسواق الغاز الطبيعي العالمية؟ بينما ينمو الطلب العالمي على الطاقة، سينمو الطلب على النفط ولكن قد يتباطأ معدل نموه عن المستوى العالمية. هذا يعني أن حصة النفط في مزيج الطاقة ستتراجع تدريجيا. ومع ذلك، قد يستغرق التراجع الكامل عقودًا عديدة. لذلك، فالمملكة بحاجة إلى تنويع محفظتها الاقتصادية والجيوسياسية للحفاظ على موقعها الجيوسياسي وبل تحسينه على الساحة العالمية على المدى الطويل. تستطيع المملكة توأمة النفط والغاز الطبيعي مع مستهدفات رؤية 2030، لبناء محفظة اقتصادية وجيوسياسية قابلة للنمو والتصدي بمرونة مع تصاعد الأخطار في المستقبل. على الرغم كونها ليست من رواد أسواق الغاز الطبيعي الحالية بل انها لم تصبح مُصدِّرا حتى الآن، الا أنه لا يجب أن يمنع ذلك التوجه في أن تكون لاعبًا أساسيا في سلسلة قيمة الغاز الطبيعي العالمية. فعلى الرغم من أن العالم لا يواجه ندرة آنية في موارد الطاقة، يمكن للعوامل الجيوسياسية أن تمنح المملكة فرصا أكبر للعب دور مهم في أسواق الغاز الطبيعي العالمية.
هنالك حاجة إلى اعادة صياغة الأفق الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية وتوسيعه. تشكل طبيعة المكونات الجيواقتصادية للدولة أفقها الجيوسياسي ومصالحها الجيوستراتيجية. تشتق الدولة كفاءتها الجيواقتصادية من طبيعة السلع التي تتدفق من حدودها، فبعض التدفقات كالنفط والتكنولوجيا وكذلك الاستثمار المباشر في الخارج ذات كفاءة جيواقتصادية كبيرة، إذا ما اقترنت تجارتها بالعمل السياسي الهادف، بينما تشكل بعض التدفقات كالمنتجات الزراعية وقطاع الملبوسات قيمة جيواقتصادية أقل بكثير.
الغاز الطبيعي لديه الميزات الضرورية ليكون سلعة استراتيجية ذات طبيعة جيوسياسية واقتصادية نامية ومؤثرة. فقد تطور حجم التدفقات العالمية للغاز الطبيعي في الآونة الاخيرة، مع تحسن قابليته للاتجار الدولي. فكما يضيف قطاع النقل الاستراتيجي البعد الجيو اقتصادي للنفط، فان قطاع توليد الطاقة الكهربائية النامي بشكل كبير يضفي الصفة ذاتها للغاز الطبيعي. كنتيجة لذلك، يمكن استغلاله كعنصر أساسي في محفظة المملكة الاقتصادية والجيوسياسية، على غرار النفط.
جيوسياسية الطاقة، وأهميتها للمملكة
سوف تشكل الصلة ثلاثية الابعاد بين أمن الطاقة وتغير المناخ والاقتصاد مزيج الطاقة العالمي وكذلك الأبعاد الجيوسياسية للطاقة. فقد اصبحت الكفاءة الجيوسياسية للطاقة نظيرا للأمن القومي والدولي في سياق مشهد الطاقة العالمي المتجدد. فحول العالم، هنالك شبكة معقدة من الصلات القائمة على استغلال الطاقة عبر الحدود، فقد اصبحت الطاقة تلعب بشكل متزايد دور بارز في ترقية النفوذ الجيوسياسي. كما ساعدت العولمة في تمدد سلاسل إمداد الطاقة وجعلها أكثر ترابطا وتعقيدًا.
حتى لو سببت سياسات التغير المناخي تغير مزيج الطاقة العالمي وبالتالي النفوذ الجيوسياسي، سيكون الغاز الطبيعي هو الرابح الأكبر. حيث سيساهم الغاز الطبيعي، كوقود في توليد الكهرباء، في تحول الطاقة بنسب متزايدة في مزيج الطاقة العالمي على حساب الفحم الحجري، لما يتمتع به من خواص كانخفاض انبعاثات غاز ثاني اكسيد الكربون لكل وحدة كهرباء مولدة، وللحاجة اليه بصورة متزامنة مع زيادة مصادر الطاقة المتجددة المتغيرة في مزيج توليد الكهرباء، لكي يوازن طاقة توليد الكهرباء المتغيرة منها مع الاحمال الكهربائية.
هل سيستمر النفط كأحد الأصول الجيواقتصادية للمملكة العربية السعودية؟ الاجابة هي نعم، ستظل أهمية المملكة العربية السعودية في أسواق النفط نظرًا لحجم إنتاجها وقدرتها الاحتياطية وتدخلها السريع في الأسواق. ولكن قد تنخفض فاعليته تدريجيا بسبب تحول الطاقة وتزايد كفاءة محركات الاحتراق الداخلي في وسائل المواصلات ونمو السيارة الكهربائية. مع ذلك، فوضع المملكة لن يكون سيئا حتى في السيناريو الأسوأ للطلب على النفط، ففي أثناء التحول الديناميكي ومع تباطؤ الطلب على النفط سيزداد أهمية النفط السعودي بسبب وفرته وانخفاض تكلفته الحدية، مقارنة مع مصادر النفط الأخرى، وسيكون للمملكة دور أكبر مع تناقص الاستثمارات المحتمل في زيادة السعة العالمية لإنتاج النفط لزيادة مخاطر الاستثمار في مشاريع زيادة السعة في المشاريع ذات التكلفة المرتفعة وكذلك ستقل مشاريع استكشاف النفط.
لكن لا بد من التحوط لمستقبل النفط فالاستفادة من القطاعات الاستراتيجية هو المفتاح لتحقيق عوائد اقتصادية ونفوذ جيوسياسي مستمر ودائم. فالاستثمار في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا (مثل تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة) وسلع الطاقة الاستراتيجية (مثل النفط والغاز الطبيعي والمواد النووية).
بداية العصر الذهبي للغاز الطبيعي
الغاز الطبيعي مؤهل بشكل متزايد لدخول عصر ذهبي يمتد لعقود عديدة من الزمن. فالغاز الطبيعي سيتحول من وقود يستهلك على المستوى المحلي والاقليمي ليكون سلعة قابلة للإتجار على المستوى العالمي وذات بعد جيوسياسي بأهمية قطاع الكهرباء. في الآونة الاخيرة، بدأ الغاز الطبيعي يكتسب زخماً متزايدا في مزيج الطاقة العالمي. فقد تحول من وقود هامشي يتم استهلاكه في أسواق غير متصلة إقليمياً إلى وقود يتم نقله عبر ارجاء الكرة الارضية للاستهلاك في العديد من الاقتصاديات البعيدة عن أماكن استخراجه.
في حين تستمر الروابط القوية بين أسعار النفط والاقتصاد العالمي، فإن الروابط مع أسعار الغاز الطبيعي آخذة في التقوى بشكل أكبر، حيث بدأت أسعار الغاز الطبيعي في تشكيل روابط تقوى بشكل متزايد مع الاقتصاديات المتقدمة والصاعدة، وبدأت تظهر ملامح ارتباط سعره بمستوى التضخم، والميزان التجاري، ونمو الناتج المحلي. إن استهلاك الغاز الطبيعي موجود ليبقى، لارتباطه باستثمارات طويلة الأمد في القطاعات الاستراتيجية ونظرًا لأسعاره المنخفضة نسبيا ووفرة سلاسل التوريد التي بدأت بالنضج ولملازمته لمصادر الطاقة المتجددة المتغيرة واستبدال الفحم الحجري به بسبب تشريعات التغير المناخي.
أسواق الغاز الطبيعي العالمية
تتشابه المكامن الجيولوجية لموارد الغاز الطبيعي مع تلك الخاصة بالنفط، بل قد يتواجدان معا. ومع ذلك، فإن الحالة الفيزيائية الغازية لهذه السلعة تؤدي إلى اختلاف خصائصها الاقتصادية والجيوسياسية. فتداعيات هذا التمييز وإن بدا بسيطا ذو أهمية جوهرية نظرًا لأن كثافة الطاقة في وحدة الحجم عند الظروف القياسية أقل بكثير من النفط، فلذلك يعتبر تخزين الغاز الطبيعي ونقله ذا تكلفة عالية بالمقارنة مع النفط. فإن تخزين الغاز الطبيعي ونقله يتطلب بنية تحتية باهظة التكاليف فاقتصاديات الاتجار به تعتمد بشكل أكبر على تكلفة البنية التحتية للنقل والتخزين أو تكلفة المصب، بالمقارنة مع تكلفة استخراجه او تكلفة المنبع. إن تكاليف النقل، سواء بالنسبة لخط أنابيب الغاز أو الغاز الطبيعي المسال، تشكل جزءًا كبيرًا من إجمالي تكلفة الاتجار بالغاز الطبيعي. لذلك، فعمليات نقل الغاز مكلفة ومعقدة نسبيًا وتعتمد على علاقات طويلة الأمد بين المنتج والمستهلك، في أغلب الأحيان، على عكس النفط. وهذا ما جعل اسواقه مجزأة وتعمل بآليات سوق مختلفة.
حاليا، يتم نقل حوالي 70 ٪ من تدفقات الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم إلى وجهات داخل بلد الإنتاج، في حين أن 20٪ من التدفقات تعبر الحدود الدولية عبر خطوط الأنابيب، وحوالي 10٪ تعبر الحدود الدولية إلى مناطق الاستهلاك عن طريق تكنولوجيات الغاز الطبيعي المسال. فأساسيات اسوق الغاز تعتمد على تجزئة أسواق الغاز الطبيعي والترابط الجغرافي والمقايضة بين طرفين وتكلفة الشحن وبالتالي عدم وجود أسواق عالمية لتبادله يتم الرجوع إليها. ففي الوقت الحاضر، تتمركز التجارة في ثلاثة أسواق غاز إقليمية، وهي شمال أمريكا وأوروبا (بما في ذلك روسيا وشمال إفريقيا) وآسيا ذات الروابط مع الخليج العربي وأستراليا. لكل منها هيكل سوق مختلف تبعا لمدى نضج السوق وخصائصه الجغرافية، ومصادر استخراجه، وعوامل سياسية أخرى. ومع ذلك، فإن أسواق الغاز الطبيعي العالمية هي في حالة تطور دائم وبدأت تخرج من تجزأها بانخفاض تكلفة نقل الغاز عبر تقنية الغاز المسال، وزيادة استخدامها في النقل على حساب النقل بالأنابيب والاستهلاك المحلي.
نحو استراتيجية سعودية للغاز الطبيعي
ستوفر تقنية الغاز المسال المرونة في امكانية نقل الغاز بين منتجين ومستهلكين، لم يكن ممكنا بالماضي، نتيجة لارتفاع التكلفة. أمل الان، بدأت ترتبط الاسواق الاقليمية المجزأة، حيث بدأت أسعار تسليم الغاز الطبيعي تتأثر فيما بينها. مع زيادة المرونة، أصبح تسليم الغاز يسعر بالتسعير المرن وأصبحت آلية التسعير الثابت اقل انتشارا. فقد أصبحت قوى العرض والطلب تتشكل بكفاءة على المدى القصير والطويل. علاوة على ذلك، يمكن أن يقلل زيادة المرونة من أوجه عدم اليقين المختلفة في السوق، والتعقيد الموروث داخل سلسلة توريد الغاز الطبيعي. أيضًا، يساعد الغاز الطبيعي المسال في تقليل مخاطر عدم توازن العرض والطلب. فمع تنوع مزيج العرض المرن، يستطيع المستهلكون التبديل بين عدة منتجين دون التأثير سلبًا على اقتصاداتها. فتنويع قنوات التوريد يعزز الأمن الاستراتيجي. كذلك، يمكن أن تزيد تقنية الغاز الطبيعي المسال العائم الجديدة من هذه المرونة وتقلل المخاطر. إجمالا، بانتشار المرونة، تستطيع الاقتصاديات المستهلكة والمنتجة تكوين استجابةً محكمة لحالات اضطراب السوق.
النسبة المئوية لاستهلاك الغاز ومكان الإنتاج من استهلاك الغاز الطبيعي يشير إلى أن إمكانية خلق طلب واعدة. ومع تزايد تدفق الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية، أصبحت الفرص الاستثمارية الناتجة من خلق الطلب عليه والموجه جيواستراتيجيا في قطاع الكهرباء المتنامي أكثر جدوى. من أجل أن تنعكس أساسيات السوق في الأسواق المتعطشة لاستهلاك الغاز الطبيعي، تحتاج الأسواق إلى تبني تعميق وتوسيع المرونة وتخفيف جمود تبادل الغاز بين الأسواق الرئيسية الثلاثة.
فبالمشاركة في تغيير أنماط استهلاك الغاز في مناطق نمو الطلب عليه، تستطيع المملكة المساهمة في زيادة تدفق الغاز الطبيعي إلى الأسواق العالمية المتعطشة. بجانب خلق الطلب، يمكننا المنافسة والاستحواذ على الأسواق الموجودة، من خلال توفير مرونة أكبر للمستهلكين والاستحواذ على الطلب المتزايد. قد يمنح هذا المملكة افقا استثماريا أرحب بالاستثمار في انشاء انظمة متكاملة بين مصادر الطاقة المتجددة المتغيرة وتوليد الكهرباء من الغاز الطبيعي، مما يعزز اختراقنا لصناعة الطاقة المتجددة المتغيرة، وانظمة تحديث الشبكات الكهربائية. كما تمنح تقنيات تحويل الغاز إلى مشتقات متعددة واستخراج الهيدروجين من غاز الميثان المملكة آفاقا مهمة لعالم ما بعد الحياد الكربوني. يوفر ذلك أساسا لبناء استراتيجية سعودية للغاز الطبيعي تقوم على البناء على تقنية الغاز المسال وخلق الطلب حتى يبلغ مداه.
أخيرا، مع طموح المملكة أن تكون لاعباً رئيسياً في أسواق الغاز الطبيعي، تحتاج إلى تحرير الغاز للتصدير. يحتاج إلى تنويع محفظة التوليد الخاصة بها من خلال إدخالها محطات توليد الطاقة النووية والمتجددة. تحتاج المملكة إلى على حد سواء تسخير الطاقة النووية والطاقة المتجددة عن طريق تحرير أسواق الكهرباء. فبتحرير أسعار الكهرباء سيتمكن القطاع الخاص من الاستثمار في كل من الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة على أساس أساسيات الأسواق وبعيدًا عن التخطيط المركزي الموسوم بعدم الكفاءة وكذلك قيود الاستثمار الحكومي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال