الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أكبر خيبة أمل تواجه الاقتصاد العالمي اليوم هو انخفاض معدل الاستثمار. في السنوات التي سبقت الأزمة المالية العالمية عام 2008م، ارتفع النمو في البلدان مرتفعة الدخل مدفوعاً بالإنفاق على السكن والاستهلاك الخاص. عندما وقعت الأزمة انخفض كلا النوعين من الإنفاق، والاستثمارات التي كان ينبغي أن تجنب الاقتصاد التباطؤ لم تتحقق أبداً. بعد الأزمة، حاولت البنوك المركزية الكبرى في العالم إعادة زخم الإنفاق والتوظيف من خلال خفض أسعار الفائدة، وقد نجحت الاستراتيجية إلى حد ما. شجع صناع السياسة المستثمرين على رفع أسعار الأسهم والسندات عبر ضخ السيولة في سوق المال وخفض أسعار الفائدة. هذا خلق ثروة مالية من خلال الأرباح الرأسمالية، وفي نفس الوقت تحفيز الاستهلاك والاستثمار (من خلال الاكتتابات العامة الأولية).
مع ذلك، وصلت هذه السياسة إلى حدودها القصوى وفرضت تكاليف لا يمكن إنكارها. مع أسعار فائدة صفرية أو حتى سالبة، يقترض المستثمرون لأجل المضاربة. ونتيجة لذلك، انخفضت الجودة الشاملة للاستثمارات بينما زادت الرافعة المالية، وقد بدا من خلال تشديد البنوك المركزية على الائتمان مؤخراً أن هناك خطر حقيقي من انخفاض كبير في أسعار الأصول.
بينما كانت السياسة النقدية تُدفَع إلى أقصى حدودها، كان هناك افتقاد إلى رفع مستوى الاستثمارات طويلة الأجل في السكك الحديدية عالية السرعة والطرق والمطارات والطاقة النظيفة والمياه النقية والصرف الصحي والصحة والتعليم. مثل هذا الإنفاق شهد انخفاضاً في البلدان مرتفعة الدخل بسبب التقشف في الميزانية، وكبح جماح الاستثمارات العامة، وحالة عدم اليقين بخصوص السياسات العامة، والضرائب الدولية التي تعيق الاستثمار الخاص.
وعلى الرغم من وعود الرئيس الأمريكي باراك أوباما للاستثمار في السكك الحديدة عالية السرعة وغيرها من البنى التحتية الحديثة، لم يتم بناء أي ميل من سكك الحديد عالية السرعة خلال السنوات الثمانية التي قضاها في منصبه. لقد حان الوقت لترجمة الأقوال إلى أفعال في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، والدخول في حقبة جديدة من ارتفاع معدلات الاستثمار في التنمية المستدامة.
هناك ثلاث تحديات تواجه هذه الاستراتيجية: تحديد المشاريع المناسبة، وتطوير الخطط المعقدة التي تشمل القطاعين العام والخاص، وهيكلة التمويل. ولكي تنجح الاستراتيجية يجب أن تكون الحكومات قادرة على: التخطيط الفعال على المدى الطويل، ووضع الميزانيات، وتنفيذ المشاريع. لقد أثبتت الصين قدرتها على ذلك خلال السنوات العشرين الماضية (على الرغم من فشل البيئة)، بينما واجهت الولايات المتحدة وأوروبا العوائق. أما الدول الفقيرة فكثيراً ما تلقت تحذيرات من صندوق النقد الدولي من مغبة المحاولة. ستجد الحكومات اليوم بعض المساعدة في التغلب على بعض هذه التحديات، فأهداف التنمية المستدامة (SDGs) واتفاقية باريس للمناخ سيساهمان في توجيه الحكومات نحو المشاريع الصحيحة.
يحتاج العالم إلى استثمارات ضخمة في أنظمة الطاقة منخفضة الكربون، ووضع حد لبناء محطات كهرباء جديدة تعمل على الفحم. كما أن هناك حاجة إلى استثمارات ضخمة في مجال السيارات الكهربائية بجانب الخفض الحاد في السيارات ذات محرك الاحتراق الداخلي. الدول النامية على وجه الخصوص تحتاج إلى استثمارات كبيرة في مشاريع المياه والصرف الصحي في المناطق الحضرية سريعة النمو. كما تحتاج البلدان ذات الدخل المنخفض إلى توسيع نطاق النظم الصحية والتعليم.
سيساعد طريق الحرير (الذي تهدف الصين من خلاله إلى ربط آسيا بأوروبا مع بناء شبكة حديثة للبنية التحتية) في تعزيز بعض هذه الأهداف، على افتراض تصميم المشاريع لتلائم الطاقة منخفضة الكربون. هذه المبادرة ستعزز فرص العمل والإنفاق والنمو خاصة في اقتصادات البلدان غير الساحلية في جميع أنحاء يوراسيا. بل إن المبادرة ستوفر ديناميكية جديدة للعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.
هناك حاجة إلى برنامج مماثل على وجه السرعة في أفريقيا. وعلى الرغم من أن البلدان الأفريقية قد حددت بالفعل أولويات الاستثمار في الطاقة الكهربائية والنقل، إلا أن التقدم سيظل بطيئاً دون موجة جديدة من الإنفاق الاستثماري. إنفاق الدول الأفريقية مجتمعة على التعليم وحده ينبغي أن يزيد بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً، الإنفاق على البنية التحتية يجب أن يرتفع إلى 100 مليار دولار سنوياً على الأقل. يجب تغطية هذه الاحتياجات على المدى الطويل، إضافة إلى قروض بسعر فائدة منخفض من الصين وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن تعبئة المدخرات الأفريقية طويلة الأجل (على سبيل المثال: من خلال إدخال أنظمة جديدة للتقاعد).
تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أيضاً إلى برامج جديدة للبنية التحتية الأساسية. فالولايات المتحدة الأمريكية (التي كان آخر مشاريعها العملاقة نظام الطرق السريعة التي اكتملت في السبعينات الميلادية) يجب أن تركز على الاستثمار في الطاقة منخفضة الكربون، والسكك الحديدة عالية السرعة، والسيارات الكهربائية. أما بالنسبة لأوروبا، فإن الخطة الاستثمارية للمفوضية الأوروبية (المعروفة بخطة Juncker) ينبغي أن تتحول إلى أهداف للتنمية المستدامة في أوروبا، بالتركيز على إنشاء شبكة نقل واسعة على مستوى أوروبا للمساهمة في الاستثمار في الطاقة منخفضة الكربون، والتركيز أيضاً على توليد الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة.
للمساعدة في تمويل مثل هذه البرامج، فإن بنوك التنمية متعددة الأطراف – مثل: البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي والبنك الأفريقي للتنمية – يمكن أن تقدم المزيد من القروض طويلة الأجل من أسواق المال بسعر الفائدة المنخفض السائد، ثم إقراض هذه الأموال للحكومات ومؤسسات الاستثمار في القطاعين العام والخاص. يتوجب على الحكومات أن تفرض ضرائب على الكربون بشكل تدريجي وذلك باستخدام عائدات تمويل أنظمة الطاقة منخفضة الكربون، وأن تسد الثغرات في نظام الضريبة على الشركات العالمية، وهو ما يعني زيادة الضريبة على الشركة العالمية بحوالي 200 مليار دولار سنوياً إن لم يكن أكثر. تملك الشركات الأمريكية حالياً ما يقرب من 2 ترليون دولار من صناديق الاستثمار الخارجية التي ينبغي أخيراً أن تخضع للضريبة. من المهم أن يتم تخصيص الإيرادات الإضافية للإنفاق الاستثماري العام الجديد.
بالنسبة للبلدان الفقيرة، فإن الكثير من الاستثمارات المطلوبة يجب أن تأتي من خلال زيادة المساعدة الإنمائية الرسمية. هناك عدة طرق لتوليد أموال المساعدة الإنمائية، منها: خفض الإنفاق العسكري، ووضع حد لحروب منطقة الشرق الأوسط، والبت بحزم ضد الجيل القادم من الأسلحة النووية، وتقليص القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج، وتجنب سباق التسلح بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من خلال تعزيز الدبلوماسية والتعاون. من الضروري توجيه عوائد السلام نحو الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية في المناطق الفقيرة التي مزقتها الحروب اليوم.
التنمية المستدامة ليست مجرد رغبة وشعار، إنها توفر المسار الواقعي الوحيد لنمو الاقتصاد العالمي وارتفاع مستوى التوظيف. لقد حان الوقت لإعطاء التنمية المستدامة الاهتمام والاستثمار الذي تستحقه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال