الجمعة, 19 أبريل 2024

ماهي مظاهر النمط الجديد لإنفاق الأثرياء؟

FacebookTwitterWhatsAppTelegram

في عام 1899، لاحظ الاقتصادي ثورستين فيبلين أن ملاعق الفضة وأنواع محددة من الملابس تعد علامات على المكانة الاجتماعية للنخبة.

وفي نظرية فيبلين الشهيرة التي تعرف باسم “نظرية الطبقة المرفهة”، صاغ فيبلين عبارة “الاستهلاك الملحوظ”، ليشير بها إلى الأشياء المادية التي يعتد بها كمؤشرات على المكانة أو الموقع الاجتماعي. حسبما تناولته “بي بي سي”.

بعد ذلك بأكثر من مئة عام، لا يزال ذلك “الاستهلاك الملحوظ” جزءا من المشهد المالي المعاصر، رغم أن البضائع الفاخرة باتت في المتناول أكثر مما كانت عليه في عصر فيبلين.

اقرأ المزيد

وتعد سهولة الوصول إلى المنتجات الفاخرة إحدى وظائف اقتصاد الإنتاج الشامل في القرن العشرين، بسبب الاستعانة بالصين كمصدر خارجي للإنتاج والتركيز على الأسواق الناشئة، حيث الأيدي العاملة والمواد الخام الرخيصة. في الوقت ذاته، شهدنا ظهور سوق الطبقة الوسطى الذي يعرض بضائع أكثر بأسعار أقل.

لكن قدرة فئات من طبقات اقتصادية متنوعة على الوصول للسلع الاستهلاكية قلل كثيرا من أهميتها كمؤشرات تدل على المكانة الاجتماعية.
ورغم الزيادة في عدم المساواة الاجتماعية، نرى أن كلا من الأثرياء وأبناء الطبقة الوسطى يمتلكون أجهزة تلفزيون فاخرة، وحقائب يد جميلة.

فالناس من كلا الفئتين يستأجرون السيارات الفاخرة، ويستقلون الطائرات أو البواخر السياحية. ولم تعد الأشياء الاستهلاكية المفضلة لدى المجموعتين تشير إلى عالمين مختلفين ومتمايزين تماما، كما كان الوضع في السابق.
وطالما أن كل واحد بإمكانه شراء حقائب يد من مشاهير مصممي الأزياء وسيارات جديدة فارهة، فقد بدأ الأثرياء يميلون أكثر إلى استخدام أساليب تظهر مكانتهم الاجتماعية بصورة مختلفة.

نعم، أصحاب الثراء الفاحش مازالوا يظهرون ثراءهم باستعراض اليخوت وسيارات البنتلي، والقصور ذات الأسوار. لكن التغيرات المفاجئة في عادات الإنفاق النخبوي باتت تقودها النخبة المتعلمة الثرية، أو ما أسميه “الطبقة الطامحة”.

بينما يمتلك المزيد من مستهلكي الطبقة الوسطى أجهزة تلفزيون كبيرة، وحقائب يد فاخرة، يتطلع الأثرياء إلى طرق مختلفة لإظهار مكانتهم الاجتماعية

هذه النخبة الجديدة تشيد مكانتها عبر احترام وتقدير المعرفة، وبناء رأسمال ثقافي، فضلا عن عادات الإنفاق التي تصاحبها، حيث تفضل أن تنفق على الخدمات والتعليم والاستثمار في تأهيل وتعليم الإنسان على مجرد اقتناء البضائع والمنتجات المادية. وهذه التصرفات الطبقية الجديدة هي ما أسميه “الاستهلاك غير الملحوظ”.

ومن أكثر الأماكن التي تشهد صعودا للطبقة الطامحة وعاداتها الاستهلاكية الولايات المتحدة. وتكشف المعلومات الواردة في دراسة مسحية بعنوان “إنفاق المستهلك الأمريكي” عن أنه منذ عام 2007 ينفق المنتمون لنسبة الواحد في المئة في المجمتع الأمريكي (وهم الذين يبلغ دخلهم السنوي أكثر من 300 ألف دولار) أموالا أقل بكثير على البضائع المادية، بينما تنفق المجموعات ذات الدخل المتوسط (التي يبلغ دخلها حوالي 70,000 دولار سنويا) بنفس القدر تقريبا، مع تصاعد في نسبة إنفاقها على السلع والبضائع المادية.

ويميل الأثرياء حاليا إلى الاستثمار بصورة أكبر في التعليم، والصحة، والرعاية أثناء فترة التقاعد، وهي مسائل غير مادية، رغم أنها تكلف أضعاف ثمن حقيبة يد يمكن أن يشتريها مستهلك متوسط الدخل.

ويخصص الأثرياء المنتمون لفئة الواحد في المئة في الولايات المتحدة القسم الأكبر من إنفاقهم للاستهلاك غير الملحوظ، مع احتلال التعليم لنسبة كبيرة من هذا الإنفاق (أي ما يصل إلى ستة في المئة من نسبة إنفاق المنتمين لهذه الفئة، مقارنة بما يزيد قليلا عن واحد في المئة من نسبة إنفاق متوسطي الدخل على التعليم).

وفي الحقيقة، زاد إنفاق المنتمين لفئة الواحد في المائة على التعليم ثلاثة أضعاف ونصف الضعف منذ عام 1996، بينما استمر إنفاق متوسطي الدخل على التعليم على حاله دون تغيير خلال نفس الفترة الزمنية.
وتعد الهوة الكبيرة بين متوسطي الدخل وفئة الواحد في المئة في موضوع الإنفاق على التعليم في الولايات المتحدة مسألة مثيرة للقلق، لأن التعليم – على عكس البضائع المادية – أصبح مكلفا بشكل كبير في العقود الأخيرة.

يستثمر الأثرياء أكثر في التعليم، وهو ما يمكن أن يوسع الفجوة بين نسبة الواحد في المئة وبقية الفئات في المجتمع
لهذا، هناك حاجة أكبر لتخصيص مصادر مالية للتعليم لكي يصبح في متناول الجميع. وحسب المعلومات الواردة في التقرير المسحي لإنفاق المستهلك في الولايات المتحدة، فإنه ما بين عامي 2003-2013 زادت رسوم التعليم الجامعي بنسبة 80 في المئة، بينما زادت أسعار الملابس النسائية بنسبة ستة في المئة فقط خلال نفس الفترة الزمنية.

ولا يعني نقص استثمار الطبقة المتوسطة في التعليم غياب ترتيب الأولويات لديها، بقدر ما يكشف عن أن التعليم يُعتبر باهظ التكلفة بالنسبة لمن هم في الأربعينيات والستينيات من أعمارهم، ولا يستحق الأمر تخصيص أموال طائلة لإنفاقها عليه.
وبينما يصبح الاستهلاك غير الملحوظ باهظ التكاليف، إلا أنه يمكن ملاحظته من خلال بعض الإشارات، مثل مطالعة مجلة الإيكونوميست، وشراء البيض القادم من المراعي وليس من مزارع الدجاج العادية.
وبمعنى آخر، أصبح الاستهلاك غير الملحوظ طريقة يشير أفراد النخبة الجديدة من خلالها إلى رأسمالهم الثقافي للآخرين. فبشكل متزامن مع دفع فاتورة المرحلة المدرسية التمهيدية الخاصة التي تسبق المدرسة، يعرف البعض أن عليهم أن يجهزوا حقائب طعامهم المدرسية المليئة بالفواكه العضوية وأنواع الكيك الفاخرة.

ربما يتبادر إلى الذهن أن تلك الممارسات المتعلقة بالطعام تعد مثالا مشتركا تقوم به غالبية الأمهات في العصر الحالي، لكن الواحد منا يحتاج فقط أن يخرج من فقاعة الطبقة المتوسطة العليا في المدن الساحلية للولايات المتحدة مثلا، ليلاحظ عادات مختلفة تماما فيما يتعلق بتحضير حقيبة الطعام المدرسية، والتي قد تشتمل على أطعمة خفيفة مصنعة تغيب عنها الفواكه.
وبالمثل، ربما يجعلك المكوث لوقت معين في كل من لوس أنغليس وسان فرانسيسكو ونيويورك تعتقد أن كل أم أمريكية ترضع طفلها رضاعة طبيعية لمدة عام كامل، بينما تفيد الإحصاءات القومية أن 27 في المئة فقط من الأمهات يحققن هذا الهدف الذي وضعته الأكاديمية الأمريكية للطفولة (في ألاباما، تصل نسبة من يرضعن أطفالهن رضاعة طبيعية إلى 11 في المئة فقط).

إن معرفة هذه العادات الاجتماعية التي لا تبدو مكلفة تعتبر في حد ذاتها من طقوس العبور إلى الطبقة الطامحة في هذا العصر. وهذه الطقوس ليست بلا ثمن، فالاشتراك في مجلة الإيكونوميست ربما يكلف مئة دولار فقط، لكن الإدراك الذي يقود إلى ذلك الاشتراك، وأن يشاهدك الآخرون وأنت تضع المجلة في حقيبتك، على الأرجح هو النتيجة المعتادة لقضاء وقت في أوساط النخبة والمؤسسات التعليمية ذات التكلفة العالية، التي تُقدر قيمة هذه المطبوعة وتناقش محتوياتها.

وربما الأكثر أهمية هو أن الاستثمار الجديد في الاستهلاك غير الملحوظ يفرز ميزات لا يستطيع إفرازها الاستهلاك الملحوظ. فمعرفة أي مقال تشير إليه في مجلة نيويوركر، أو ما هي الكلمات الأساسية الضرورية للحديث في سوق المزارعين المحلي، تساعد على اكتساب رأس المال الثقافي. وبالتالي، يمنحك ذلك الدخول إلى النسيج الاجتماعي الذي يساعد في تمهيد الطريق للوظائف النخبوية، وللعلاقات المهنية والاجتماعية المهمة، وللمدارس الخاصة.

باختصار، الاستهلاك غير الملحوظ يمنح قدرة على الحركة والمرونة الاجتماعية. والأهم من ذلك، فإن الاستثمار في التعليم، والرعاية الصحية، والرعاية في فترة التقاعد، كلها عوامل لها أثر ملحوظ على نوعية حياة المستهلك، وكذلك على فرص الحياة المستقبلية للجيل القادم.

والاستهلاك غير الملحوظ في هذا العصر شكل من أشكال الإنفاق الأكثر عمقا وأثرا مما كان عليه الاستهلاك الملحوظ في عصر فيبلين. كما أن الاستهلاك غير الملحوظ هو وسيلة لحياة أفضل، ومرونة اجتماعية متطورة للأبناء، بينما يعتبر الاستهلاك الملحوظ مجرد تفاخر وينتهي أثره عند الشخص الذي يقوم به فقط.
وبالنسبة للطبقة الطامحة في هذا العصر، تعمل خيارات الاستهلاك غير الملحوظ على تأمين المكانة الاجتماعية والمحافظة عليها، حتى لو لم تظهر هذه المكانة أمام أعين الناظرين.

ذات صلة

المزيد