السبت, 27 أبريل 2024

رؤية المملكة 2030 والقطاع الخيري ـ تفاعل وإنجازات

FacebookTwitterWhatsAppTelegram

رؤية المملكة 2030، منذ تصوِّرها التخطيطي النظري، وبدء مراحل تنفيذها العملي، أولت القطاع الخيري الخاص أهميَّة استثنائيَّة متناسبة ودوره في تطوير المنظومتين الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. وانطلاقًا من ترسيخ قيم التعايش والقبول والتلاحم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، وضعت الأُسس والقواعد لوطن لا يتفاعل مع مستجدَّات العصـر فحسب، بل يُشارك في ابتكارها وتطويرها. فتمكين القطاع الخيري يسهم في تحقيق طموحات رؤية المملكة 2030، وخلق بنية اجتماعيَّة متطوِّرة قائمة على تفاعل أدوار الأفراد، والمنشآت الخاصَّة والمنظَّمات غير الربحيَّة ومشاركة المؤسَّسات الحكوميَّة القيادية.
لا جَرَمَ أنَّ تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، يقتضـي الاعتماد على مكوِّنات الاقتصاد الأَساسيَّة، وتفعيل مشاركتها وتكامل أدوارها في إنجاز خطط التحوُّلات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. لذا، فالخطوة الأُولى -كما تصوَّرته خطط رؤية المملكة 2030- للمكوِّنات الأساسيَّة، وتكامل أدوارها، يبدأ بتفعيل دور الأفراد وزيادة مشاركتهم. وقد قدَّمت الخطَّة برامج مبتكرة لتطوير قدراتهم الإداريَّة والإنتاجيَّة، وتوفير بيئة تتيح لهم إطلاق إبداعاتهم وتطبيق أفكارهم، وتمكينهم من خلق مصادر دخل فرديَّة مستقلَّة مُتجدَّدة، لتحسين مستوى رفاهيَّتهم الاجتماعيَّة.
إلى جانب تمكين أفراد المجتمع من تحقيق طموحاتهم، استهدفت الخطَّة تعزيز الدور القيادي للمنشآت الخاصَّة في النشاط الاقتصادي، ورفع نسبة إسهامها في الناتج المحلِّي الإجمالي. كما استهدفت تحفيز مسؤوليَّاتها الاجتماعيَّة، وزيادة حجم مشاركتها في تكوين البنية الاجتماعيَّة القادرة على تحقيق النموِّ الاقتصادي المستدام. وتكمن المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للمنشأة الخاصَّة في مبادرات طوعيَّة ناجمة عن دوافع اقتصاديَّة وأَخلاقيَّة، تعبِّر فيها المنشأة عن فهم دورها كأحد مكوِّنات الاقتصاد والمجتمع الأساسية، وليس كيانًا منعزلًا خارجًا عن المنظومة الاجتماعيَّة.
احتلَّ تمكين المنظمات غير الربحيَّة حيِّزا واسعًا ومهمًّا كذلك في استراتيجيَّة تطوير القطاع الخيري التي وضعتها خطط رؤية المملكة 2030. أهميَّة هذه المنظمَّات في بناء أسس مجتمع المستقبل، تفرض ضرورة تمكينها من ممارسة أدوارٍ أكثر حيويَّة وفاعلية في نموِّ الاقتصاد الوطني، وتطوير المجتمع من خلال تعزيز إطارها المؤسَّسي ورفدها بمقوِّمات النموِّ والنجاح.

دور المنظمَّات الخيريَّة في تنمية المجتمع والاقتصاد الوطني
تعدُّ المنظَّمات غير الربحيَّة، إحدى أهم سمات المجتمعات المتطوِّرة، ورافدًا أساسيًا لازدهارها الاجتماعي ورفاهيتها. كما تُعدُّ قوَّةً اقتصاديَّة مؤثِّرة، وأداة فاعلة في مواجهة التحدِّيات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتحقيق التنمية الاقتصاديَّة. فمع تشعُّب التحديات الاجتماعيَّة وتفاقم حِدَّة الصعوبات الاقتصاديَّة، تصاعدت حاجات المجتمعات المعاصرة إلى إسهامات المنظَّمات غير الربحيَّة بسبب قدرتها على تقليص الفجوة المتَّسعة بين محدوديَّة الموارد المتاحة للدولة وارتفاع متطلَّبات المجتمع.
شهدت تجربة المنظمَّات غير الربحيَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة تحوُّلاتٍ نوعيَّةً خلال السنوات الأربع الماضية، حيث توسَّعت مهامها من الدور “الرعوي” المقتصر على تقديم الخدمات الإنسانيَّة، والمبني على مفاهيم (البِرِّ والتقوى) إلى الدور “التنموي” والإسهام الفاعل والشامل في تنفيذ برامج التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وتعضيد التكافل الاجتماعي، وتعميم ثقافة المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وإعادة توزيع الثروة، وتقديم خدمات الاستدامة وحماية البيئة. كما شاركت المنظمَّات الإنسانيَّة غير الربحيَّة في تطوير رأس المال البشري من خلال ما قدَّمته من برامج تدريبيَّة وتطويريَّة رفعت مستوى أداء أفراد المجتمع وحسَّنت إنتاجيَّتهم. أهم التطوُّرات التي شهدتها مهام المنظَّمات غير الربحيَّة، تكمن في ارتفاع دورها في تنشيط سوق العمل، وتأثيرها في زيادة الطلب على العمل، وخلق فرص عمل دائميَّة بأجور مجزية داخل القطاع الخيري وخارجه أفضت إلى زيادة الدخل الأُسري، وتخفيف معاناة الأُسر المُتعفِّفة.
لقد شخَّصت خطَّة رؤية المملكة 2030 أهميَّة تطوير دور استراتيجي أكثر فاعليَّة للمنظَّمات غير الربحيَّة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي في المملكة العربيَّة السعوديَّة، ووضعت مجموعة من الخطط لتوسيع مهامها وجعلها عاملًا اقتصاديًّا أساسيًا ومؤثِّرًا وفاعلًا في دورة تكوين الدخل في الاقتصاد، وتنمية المجتمع. كما أصدرت الدولة مجموعة تشـريعات وقرارات لتمكين المنظَّمات غير الربحيَّة من توسيع انخراطها في الفعاليَّات الاقتصاديَّة، وزيادة إسهامها المباشر في تحفيز الاستثمار الوطني وزيادة حجم الاستخدام، وتنمية الدخل الأُسري، وبناء أُطر اجتماعيَّة واقتصاديَّة مُبتكرةٍ.
الإنجازات المتحقِّقة والمكتسبات
سعد قرياقوس
تهدف رؤية المملكة 2030 إلى بناء مجتمع متطوِّر ومرفَّه اقتصاديًّا من خلال تفعيل مشاركة مكوِّناته الأساسيَّة في تطوير البنى الاجتماعيَّة، وزيادة إسهامها في تنمية النشاط الاقتصادي وتطوير جودة الحياة. خطط الرؤية لا تهدف إلى إحداث تغييرات ماديَّة حصرًا، وزيادة معدَّلات النموِّ الاقتصادي فحسب، بل طموحاتها أكثر وأوسع وأعمُّ، وتشمل تطوير قيم المجتمع أفرادًا ومؤسَّساتٍ تخطيطًا وممارسةً، ومنظَّمات الجهد الخيري خاصَّةً.

شهدت الحقبة الماضية نجاح المؤسَّسات الحكوميَّة والمنشآت الخاصَّة في المملكة في تنفيذ جوانب مهمَّة من طموحات الرؤية وأهدافها، وتحقيق إنجازات مُتعدِّدة، ومُكتسباتٍ نوعيَّة. فقد تمكَّنت الهيئات الحكوميَّة ومؤسَّسات الدولة من إكمال الأُطر التشريعيَّة والقانونيَّة الخاصَّة بتنظيم الممارسات الخيريَّة للأفراد والمنشآت الخاصَّة والقطاع غير الربحي. كما تمَّ تهيئة صيغ آليَّات الدعم الحكومي وشروطه، وتحديث الأنظمة واللوائح، وسياقات الحوكمة الإداريَّة الخاصة بالمنظَّمات غير الربحيَّة والمؤسَّسات الوقفيَّة والإشراف على ممارساتها ومراقبتها.

اقرأ المزيد

سجلُّ الإنجازات المتحقِّقة، تضمَّن تأسيس هيئات حكوميَّة مختصَّة بتنمية استراتيجيَّة الاستثمار الاجتماعي في المملكة أيضًا، والإشراف على تنفيذها. في مقدِّمتها الهيئة الوطنيَّة للمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، ووكالة التنمية الاجتماعيَّة في وزارة الموارد البشريَّة والتنمية الاجتماعيَّة، ومجلس المسؤوليَّة الاجتماعيَّة التابع للغرفة التجاريَّة والصناعيَّة في الرياض.

السنوات الأربع الماضية، شهدت تحقيق إنجازات كميَّةٍ ونوعيَّةٍ أيضًا على صعيد تطبيق خطط الرؤية، وإحداث تغييرات جذريَّة في هيكل القطاع الخيري وسياقاته الإداريَّة وأهدافه. أدناه مختصر لأَهمِّ التطوُّرات والإنجازات:
أَوَّلًا: نشر ثقافة المسؤوليَّة المجتمعيَّة وترسيخ مفاهيمها ومنافعها. وغرس روح التطوُّع والعطاء لدى الأفراد والأسر. كما تمَّ إطلاق العديد من برامج ريادة الأعمال وإدارة المشاريع الصغيرة، وتنظيم دورات التطوير المهني والإداري لتمكين الأفراد، ورفع حجم انخراطهم في المشاريع الاستثماريَّة الخاصَّة، وتأهيلهم لدخول قوَّة العمل كذلك.

ثانيًا: إطلاق عدد من المبادرات الخاصَّة بتحفيز المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للمنشآت الخاصَّة، وتمكينها من رفع دعمها لشبكة الأمان الاجتماعيَّة، وزيادة حجم استثمارها الاجتماعي، وتعزيز قدراتها على خلق فرص عمل. المرحلة المنصرمة، شهدت قيام شراكات متعدِّدة ومبتكرة أيضًا بين مؤسَّسات الدولة والمنشآت الخاصَّة لإنجاز مشاريع تنمويَّة استراتيجيَّة في قطاعات حيويَّة كالإسكان والصحَّة والتعليم.

ثالثًا: دعم واسع لنشاط المنظمَّات غير الربحيَّة، وتمكينها من تحقيق أهدافها، ورفدها بالمنح والإعانات الماليَّة والتسهيلات الائتمانيَّة وتمويل مشاريعها، وما سواها من سبل الدعم المباشر. إلى جانب ذلك، قدَّمت الحكومة دعمًا غير مباشر للمنظَّمات الخيريَّة، فسهَّلت لها استقطاب الكفاءات الإداريَّة المتقدِّمة. كما تمَّ تعزيز صيغ التعاون الفعَّال بين مؤسَّسات القطاع غير الربحي والأجهزة الحكوميَّة. وشهدت المرحلة المنصرمة أيضًا توسُّع نطاق عمل المنظَّمات غير الربحيَّة، وتطور محتوى فعاليَّاتها، وتصاعد إسهاماتها في نشاطات اجتماعيَّة مبتكرة كالرعاية الصحيَّة والتعليم والإسكان، والأبحاث وبرامج حماية البيئة والفعاليَّات الثقافيَّة.

رابعًا: تقديم دعم كبير وواسع لنشاط الجمعيَّات التعاونيَّة الخيريَّة ورفدها بمتطلَّبات النموِّ والنجاح، وتوفير الموارد الماليَّة الحكوميَّة والإداريَّة اللازمة لتطويرها وتصعيد أنشطتها. في هذا السياق، بادرت وزارة التخطيط الاقتصادي بتشكيل هيئة متخصِّصة بدعم الجمعيَّات الخيريَّة والتعاونيَّة ومراكز التنمية الاجتماعيَّة الأهليَّة، والإشراف على أدائها وتطويرها، واعتمادها أَحدَ أدوات تنشيط الاقتصاد. كما تمَّ تأسيس صناديق ماليَّة متخصَّصة بتلبية الاحتياجات الماديَّة للمنظَّمات الخيريَّة والاجتماعيَّة.

خامسًا: تحديث الإجراءات والتشريعات الحكوميَّة المنظِّمة لشؤون الأوقاف، وإدارتها وضمان تطبيق أسس الحوكمة السليمة. كما تمَّ دعم الأوقاف، وتشجيع النشاط الوقفي، وتمكينه من تجديد مصادره التمويليَّة، وإدامة أصوله وموجوداته. تطوير الأوقاف ونجاحها، يسهم في بناء المجتمع وتطوُّره. وشهدت المرحلة عدَّة مبادرات لتطوير عمل نشاط الأوقاف وتنميتها؛ وأهمَّها، مشروع الصناديق الاستثماريَّة الوقفيَّة الذي أطلقته الهيئة العامَّة للأوقاف. تتيح هذه المبادرة للمؤسَّسات الوقفيَّة تنويع محفظتها الماليَّة، والحفاظ على أصل الوقف، وحلَّ مشكلات الأوقاف المتعثِّرة.

سادسًا: أطلقت المؤسّسات الحكوميَّة عدَّة مبادرات لتحفيز النشاط الخيري، ودعم المنظَّمات غير الربحيَّة، وتوسيع دورها الاجتماعي والاقتصادي، أهمُها:
مبادرات وزارة التنمية البشريَّة والتنمية الاجتماعيَّة؛ بإنشاء صندوق تحقيق الاستدامة، وجمعيَّة التسويق، وجمعيَّة تجارة التجزئة الإلكترونيَّة، وجمعيَّة الابتكار وريادة الأعمال الاجتماعيَّة، وجمعيَّة سيِّدات الأعمال، وجمعيَّة الامتياز التجاري، وجمعيَّة المودَّة للتنمية الأُسريَّة.

كما أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة مبادراتٍ استهدفت تطوير الجمعيَّات المختصَّة بتنمية القطاع الزراعي، وتشجيع استخدام تقنية الزراعة العضويَّة. وهيَّأت التخصيصات الماليَّة، وقدَّمت الدعم التقني المطلوب لقيامها.

تجربة السنوات الأربع المنصرمة، شهدت كذلك تقدُّمًا كبيرًا في مفهوم الاستثمار الجماعي وآليَّاته وتطبيقاته، واستخدامه أداةً لمواجهة التحدَّيات الاقتصاديَّة، وتوفير السلع العامَّة مُلبيةً لحاجات المجتمع.
من المسلَّم به، أنَّ طبيعة التحدِّيات الاقتصاديَّة الآنيَّة والمستقبليَّة الصعبة، وارتفاع الطلب المجتمعي على خدمات المنظمَّات الخيريَّة الإنسانيَّة، وغير الربحيَّة، تحتِّم استمرار جهود الدولة في إجراء تحوُّلات جذريَّة على مفاهيم المنظَّمات الخيريَّة وفي طبيعة مهامها. ودعمها وتشجيعها على طرح صيغ مبتكرة تعزِّز موقعها الاجتماعي، وتوسِّع مشاركتها في نموِّ الاقتصاد الوطني المستدام واستقراره.

مواصلة تنفيذ برنامج الرؤية الخيري من شأنه خلق دور استراتيجي مستقبلي أكثر فاعليَّة للمنظَّمات غير الربحيَّة، ويتيح لها تغيير موقعها من “جهد مؤسَّسي” متمِّم لدور الدولة الاجتماعي إلى مكوِّن اقتصادي مستقل مؤثِّر وفاعل. ومن شأنه أيضًا تعميق انخراطها في الفعاليَّات الاقتصاديَّة، وزيادة إسهامها المباشر في تحفيز الاستثمار الوطني، وزيادة حجم الاستخدام، وتنمية الدخل الأُسري.

من المؤمَّل أن تشهد المرحلة المقبلة طرح استثمارات مشتركة بين المؤسسَّات الحكوميَّة والخاصَّة، والمنظَّمات غير الربحيَّة، واستمرار جهد التمكين الاقتصادي للأفراد والأسر؛ لتعزيز موقعهما في شبكة الأمان الاجتماعيَّة الوطنيَّة.

من المتوقَّع أيضًا أن يتم في المرحلة المقبلة إكمال أُسس التحوُّلات الاستراتيجيَّة الكفيلة بتوأمة الدور الاقتصادي والدور الاجتماعي للمنشآت الخاصَّة، ورفع مستوى نشاطات المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، مما يتيح لها تقديم قيم مضافة إلى الاقتصاد الوطني، وتقوية موقعها الاقتصادي، وتحويلها إلى قوَّة اقتصاديَّة تنمويَّة فاعلة في بناء المجتمع المتطوِّر والاقتصاد المزدهر والمستقر.

ذات صلة

المزيد