الخميس, 18 أبريل 2024

الرؤية: من إيرادات النفط إلى ضخ الاستثمار

FacebookTwitterWhatsAppTelegram

تمهيد
على مدى خمس سنوات عايش المجتمع بكل شرائحه، بما في ذلك القطاع الخاص، طموحات ومستهدفات رؤية المملكة 2030، التي خضعت لنقاشات مطولة ودراسات مستفيضة، تولد منها برامج لتحقيق الرؤية، واستراتيجيات قطاعية. قاد هذا الجهد مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، الذي يرأسه سمو ولي العهد. يتناول هذا الحيز تحديات الرؤية منذ الولادة حتى أن بلغت الخامسة، والاختبار الصعب الذي اجتازته بما في ذلك تحدياته القابعة والمستجدة، مثبتةً مرونة الاقتصاد السعودي وإمكاناته التي تفتقت عن تنفيذ برامج واستراتيجيات وإصلاحات الرؤية. ثم الختام لبيان أن الرؤية تستهدف الاستدامة الاقتصادية، وليس مجرد التوزان المالي. والاستدامة تقوم على عناصر محورها الاستثمار، الذي بدونه يذبل الاقتصاد ويذوي.

التصدي للتحديات أولًا
في البداية كانت هناك جملة من التحديات الضخمة، التي نجحت الرؤية في التصدي لها وعلاجها، وهي تباعًا:
1- رفع كفاءة الإنفاق: صدرت ميزانية العام المالي 2016 بضوابط محددة، منها: إنشاء وحدة للمالية العامة في وزارة المالية، وتكليفها بالعمل على تحديد سقف للميزانية والالتزام بهذا السقف، والحد من تنامي المصروفات الجارية للحكومة والتي بلغت 450 مليار ريال في العام 2015، ورفع كفاءة الإنفاق التشغيلي، ويتضمن ترشيد نفقات الأجهزة الحكومية، وتوظيف الاستخدام الأمثل للتقنية في تقديم الخدمات الحكومية، وتطوير وتفعيل آليات الرقابة، ومن جانب آخر رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي بمراجعة المشاريع الحكومية ونطاقها وأولوياتها لتراعي جودة وكفاءة التنفيذ، وتتوافق مع أولويات وتوجهات واحتياجات التنمية والمتطلبات المالية والتمويلية. وعلى صلة، فقد أصدر مجلس الوزراء قرارًا بإنشاء برنامج وطني لدعم إدارة المشروعات في الجهات العامة. إضافة لذلك مراجعة وتقييم الدعم الحكومي بما في ذلك: تعديل منظومة دعم المنتجات البترولية والمياه والكهرباء، وإعادة تسعيرها، مع مراعاة التدرج في التنفيذ خلال خمسة أعوام، بهدف تحقيق الكفاءة في استخدام الطاقة، والمحافظة على الموارد الطبيعية، ووقف الهدر والاستخدام غير الرشيد.

2- الاستفادة من الموارد الاقتصادية: حيث صدرت الميزانية العامة للعام 2016 بتوجيهات لاتخاذ مجموعة سياسات وإجراءات لتحقيق إصلاحات هيكلية في الاقتصاد الوطني للتقليل من اعتماده على النفط، من بينها طرح مجموعة من القطاعات والنشاطات الاقتصادية للخصخصة، وتذليل العقبات التشريعية والتنظيمية والبيروقراطية أمام القطاع الخاص بما يؤدي إلى توليد فرص عمل ويوفر فرصًا للشراكة بين القطاعات المختلفة: العامة والخاصة وغير الربحية، ورفع القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني وتكامله مع الاقتصاد العالمي. وفي سياق هذا التحدي (الاستفادة من الموارد الاقتصادية) أعلن في ذلك عن مبادرة بتأسيس صندوق سيادي استثماري، يستثمر أمواله في الملكية الخاصة بشراء حصص من شركات محليًا وعالميًا، تودع فيه حصيلة خصخصة ملكيات الدولة، لتتنامى أصوله إلى حدود 2 ترليون دولار، لتغطي عوائده جزءًا مهمًا من الإنفاق العام للخزانة العامة للدولة.

اقرأ المزيد

3- زيادة عوائد الاستثمارات الحكومية، حيث بيَّن بيان الميزانية للعام 2016، أن هذه العوائد نمت بنحو 80 بالمائة خلال العام 2015، من 21.9 مليار ريال إلى 37 مليار ريال. أما الإيرادات غير النفطية، التي تمثل عوائد الاستثمار أحد عناصرها، فقد نمت خلال العام ذاته بنحو 29 بالمائة من 126.8 مليار إلى 163.5 مليار. وقد سبق أن بيَّن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مقابلته لمجلة “الاكونومست” النافذة في يناير 2016، أنه من المتوقع نمو الإيرادات غير النفطية خلال خمس سنوات لتصبح مائة مليار دولار (375 مليار ريال)، وأكدها بعد ذلك في مقابلة مع “بلومبرج”، وأضاف أن هيكلية الإيرادات غير النفطية ستنمو بالتدريج حتى العام 2020 لتكون أكثر تنوعًا.

وقت التنمية
مع تباشير تدفق النفط في الثلاثينيات من القرن الماضي كانت الأولوية لتنمية بلد شاسع المساحة يفتقر إلى الخدمات على تنوعها، فأخذ الإنفاق الرأسمالي يتجه لإيجاد البنية التحتية الأساسية الضرورية للأنشطة الاجتماعية-الاقتصادية، بإنشاء شبكات طرق وتوفير التعليم والرعاية الصحية ضمن أمور أخرى. ثم في بداية السبعينيات برز توجه أكثر شمولًا، وَثَّقته الخطة الخمسية الأولى للتنمية، مرتكزة على أن التنمية المستدامة تتحقق بتنويع مصادر الدخل وزيادة فرص توظيف الموارد البشرية، واستمر هذا مطلبًا مستقرًا حتى الآن. ولا بد من بيان أن الاقتصاد السعودي، وعلى الرغم من تقلبات إيرادات النفط وما حاق بمنطقة الخليج العربي من حروب وتحديات “سممت” بيئة الاستثمار، إلا أنه حقق معدل نمو سنوي مركب في حدود 3.75 بالمائة للفترة 1970-2015، بالأسعار الثابتة، لكنه نمو لم يبرح معتمدًا على النفط؛ ولذا فقد شابه التذبذب هبوطًا وصعودًا، بما لا يوائم استقرار الاقتصاد.

وفي اليوم الذي أعلنت المملكة رؤيتها للعام 2030، في رحلة لفك اعتماد الاقتصاد على النفط، والتي لا تعني قطيعةً بقدر ما تعني تنمية موارد إضافية إلى جانب النفط؛ حيث تناولت الرؤية مزايا نسبية، إضافة للنفط، حبا الله سبحانه بلادنا بها؛ وهي: العمق العربي والإسلامي، والطاقة الاستثمارية، والموقع بين ثلاث قارات. واستمدت الرؤية من كلٍ من هذه المزايا شعاعًا، يمكن استجلاب قوة كامنة منه، تترجم إلى برامج اجتماعية-اقتصادية تعود على المملكة بالخير.

وليس محل شك، أن هذه الرؤية –كما كل رؤية- وضعت الإطار العام والخطوط العريضة والمستهدفات، لتتبعها استراتيجيات ومبادرات لها خطط تنفيذية. ولا بد من بيان أن المرتكزات الثلاثة للرؤية (العمق العربي والإسلامي، والطاقة الاستثمارية، والربط بين ثلاث قارات) ليست فقط في المتناول، بل هي جزء من كينونتنا الراهنة، كل ما هو مطلوب -هو ليس أمرًا سهلًا- توظيف هذه المزايا النسبية توظيفًا حصيفًا لاستخراج الفرص لتضيف قيمة لاقتصادنا السعودي، وازدهارًا لمجتمعنا.

تحديات النمو
عندما أطلقت الرؤية، بدأت بمجابهة تحديات أساسية، التي سبق ذكرها. وخلال الخمس سنوات تمكنت من التعامل مع كلٍ من تلك التحديات بأن تحقق إعادة هيكلة جوهرية، وليست بالضرورة مريحة، بل لعل الهدف كان إخراج الاقتصاد من حالة “الدعة” إلى حالة من الاستعداد للتغيير، ثم التغيير تهيؤًا لتحقيق مستهدفات كمية (مثل رفع ترتيب الاقتصاد السعودي إلى المرتبة 15 عالميًا) عند خط نهاية محدد (العام 2030)، وليس النمو بقوة دفع عائدات “النفط”، بل باستيفاء اشتراطات موضوعية لاستدامة النمو الاقتصادي وتواصل تصاعده.

وبالفعل، فمجرد إعلان الرؤية عن تطلعاتها وطموحاتها قبل خمس سنوات، بما في ذلك أهدافها ثلاثية المستويات، وَلَّدَت دفعة من تحدياتٍ جديدةٍ علينا تجاوزها. وبطبيعة الحال فمصادر الدخل الأخرى لن تأتينا بريعٍ يُستخرج من باطن الأرض، بل بتنويع مصادر الخزانة العامة من جهة، وبتنويع الاقتصاد غير النفطي ودفعه للنمو بما يجلب أموالًا لا بد أن تُكَدَّ كدًا، وتُنتج إنتاجًا، وليس الإنتاج كالريع! في هذا السياق، فقد وضعتنا الرؤية وجهًا لوجه أمام حقيقة الفطام عن النفط التي لطالما تحدثنا عنها منذ الخطة الخمسية الأولى لكننا لم نحققها، وبدأنا على الرغم من ثقل ذلك على أنفس كثيرة وكأنه ضرب من المستحيل، بدأنا من خلال تحقيق الرؤية بالتدرج في الفطام عنه، في رحلة قد تمتد على مدى خمسة عشر عامًا، وهو تحول ليس باليسير في ظل اعتماد الخزانة لما يتجاوز 70 عامًا على النفط، لكنه خيار ضروري ثبت أنه لم يحتمل مزيد تأخير أو تباطؤ.

الخمسية الأولى: الاختبار والنتيجة
انطلقت الرؤية قبل خمس سنوات. فما كان تأثيرها حقيقةً؟ الإجابة أتت عمليًا وفي ظرفٍ حالك، عندما وضعت جائحة كورونا دول العالم، ومنها السعودية، أمام اختبار صعب مُلغَّم بحزمٍ من التحديات تتوالى تباعًا. بل يمكن الجدل أن التحدي أمام السعودية كان مضاعفًا، فبالإضافة للتحدي الصحي الذي اجتاح دول العالم لا سيما في الربع الثاني من العام 2020، واجهت السعودية عاصفة اقتصادية عاتية عندما انهارت أسعار النفط، وتعطل موسم الحج والعمرة في آنٍ معًا.
لقد أجبرت جائحة كورونا دول العالم على استلال كل ما في جعبتها من أدوات وما لديها من إمكانات مالية، فراكَم العالم ديونًا فاقت ثلاث مرات قيمة ما تنتجه اقتصاداته من سلع وخدمات، في حين أن تلك الاقتصادات انكمشت بما يتجاوز 4 بالمائة (وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي) في العام 2020. ومع ذلك فلم يكن أمام أعتى الاقتصادات من خيار سوى اقتراض الكثير من المال لمنع اقتصاداتها من “الذوبان” بما قد يجعل من الصعب أن تنصب قوامها ثانية دون بقائها “مُعَلعَلة” لوقت قد يطول.

الاختبار الصعب
وقد عانى اقتصادنا السعودي من الجائحة العالمية كسائر الاقتصادات، فتقلص في الربع الثاني بمقدار 7 بالمائة، حيث تراجعت الأنشطة الاقتصادية قاطبة دونما استثناء، وعزز القطاع النفطي ذلك بتراجعه 8.2 بالمائة، في حين تراجع القطاع غير النفطي 5.3 بالمائة، وتقلص القطاع الحكومي بنحو 1.3 بالمائة. لكن الانكماش قَلَّ بالتدريج من 7 بالمائة في الربع الثاني إلى 4.6 بالمائة في الربع الثالث، إلى 3.9 بالمائة في الربع الرابع، ليصبح بذلك من بين أفضل الاقتصادات الرئيسية أداءً في الربع الرابع بتقليص فجوة النمو. أما مؤشر الأسعار فقد كانت قيمته 98.69 في فبراير 2020، وبقي مستقرًا لأربعة أشهر بعد ذلك، ثم قفز في شهر يوليو 2020 بنحو 5.76 نقطة متأثرًا بزيادة ضريبة القيمة المضافة من 5 بالمائة إلى 15 بالمائة، وفي فبراير 2021 سجلت قيمة مؤشر الأسعار 103.87، أي بزيادة 5.18 نقطة مقارنة بالشهر النظير من العام 2020.

كما كان للجائحة وقعٌ واضح على الطلب وبالتالي الاستهلاك، والذي يمثل ما يفوق 60 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ولعل أبلغ دلالة على ذلك أنه وعلى الرغم من زيادة سعر ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أضعاف، إلا أن إيرادات الربع الثالث للعام 2020 زادت فقط بمقدار 37 بالمائة مقارنة بالربع الثالث من العام 2019، فبلغت نحو 51.6 مليار ريال، حيث إن الضرائب الاستهلاكية (ضريبة القيمة المضافة في مقدمتها) تبين مدى الإقبال على الاستهلاك من عدمه.

ومما لا يمكن تجاوزه كذلك تقلص الإيرادات النفطية لما دون 100 مليار خلال الربع الثالث للعام 2020، وفي سابقة تاريخية غير مشهودة منذ أن أصبح النفط المصدر الأول لإيرادات الخزانة العامة قبل أكثر من 70 عامًا، هي أن تصدرت الإيرادات غير النفطية في الربع الثالث حيث بلغت 123 مليار ريال منها نحو 42 بالمائة ضرائب السلع والخدمات.

وامتدادًا للمقارنة، نجد عند مضاهاة الربع الثالث للعام 2020 مع الربع النظير للعام السابق، أن الإنفاق الحكومي ارتفع بوتائر عالية في بنود الإعانات (215%) والمنح (74%) والمنافع الاجتماعية (26%).

رؤية 2030 والنهوض للتحديات
العام 2020 هو عام التحديات لا شك، والتحديات هي على فئتين: قائمة وأخرى مستجدة. التحديات القائمة هي التي كانت حاضرة قبل عام الجائحة، ومنها ما هو جيوسياسي وأمني للذود عن الحياض والمصالح الحيوية للبلاد، ومنها ما يتصل بالنمو والتنمية، والأبرز في هذا السياق هو تحقيق رؤية المملكة 2030، ومنها التعامل مع أسواق النفط التي تغلب فيها العرض على الطلب وفاقه، فجعل الأسعار متراجعة ومعها إيراداتنا النفطية، ومنها رئاسة المملكة لمجموعة العشرين. وسط تلك الكثرة من التحديات القائمة حلت كورونا كأزمة طارئة بتحدياتها المستجدة، التي جلبت معها الكثير من الألم للبشرية، ولَفَّت الاقتصاد العالمي بضبابٍ حالك.

بادأت السعودية كورونا مبكرًا، وبذلت السعودية الكثير، فتمكنت بتكاتف الجهود من “تسطيح المنحنى”، حيث منحت الأولوية مبكرًا للحفاظ على سلامة وصحة السكان، وأتاحت الفحوص والرعاية الصحية للجميع دون تمييز أو شروط، وأطلقت منظومة متكاملة للتعامل مع الأزمة بغية السيطرة على تفشي الجائحة، ليس فقط من الجانب الصحي، بل كذلك تداعياتها من جوانبها المتعددة لا سيما الاقتصادية، فأطلقت مبادرات تخفيفية تجاوز قوامها 220 مليار ريال (61 مليار دولار)، شملت إعفاءات وتأجيل لرسوم تتجاوز قيمتها 71 مليار ريال (19 مليار دولار)، ونحو 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) لدعم القطاع المالي والمنشآت المتوسطة والصغيرة، ودعم 60 بالمائة من الأجور بما لا يتجاوز 9000 ريال شهريًا للموظف (مبادرة ساند) لدفع أجور الموظفين في القطاع الخاص، فضلًا عن تأجيل دفع الضرائب المستحقة وتقديم الإقرارات الضريبية، كما ضخ البنك المركزي السعودي ما يوازي 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) لدعم سيولة النظام المصرفي لتعضيد قدرته لتمويل متطلبات توازن التدفقات النقدية للقطاع الخاص، وكذلك لتقديم خطابات الضمان للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.

وكان لكورونا وللتصدي لها أثر على الخزانة العامة، فنتيجة لانكماش الاقتصاد العالمي تراجعت صادرات السعودية النفطية وغير النفطية على حدٍ سواء، لدرجة أن الربع الثاني من العام 2020 شهد أول عجز في الميزان التجاري منذ عقود (-28 مليون ريال). ولمجابهة التحدي، لجأت الخزانة العامة لاستخدامٍ متدرجٍ للأدوات، وقد أثبت ذلك الاستخدام امتلاكها ليس فقط لفسحة مالية (fiscal space) واسعة استخدمتها بتؤدةٍ بيَّنت أن المرونة (resilience) تؤتي أكلها وقت الأزمات.
وهنا يأتي السؤال: من أين أتت تلك المرونة، والقدرة على التدبير السريع، وإدارة الأزمة باقتدار، بما أدى إلى التخفيف من التحديات الصحية والمالية، وإدارة الدفة الاقتصادية باتجاه الخروج المتدرج من حالة الانكماش؟

يمكن الجزم بأن برنامج الإصلاحات وإعادة الهيكلة، التي انطلقت بها الرؤية على أرض الواقع، من خلال باكورة برامجها وأكبرها وأعلاها إنفاقًا، وهو برنامج التحول الوطني، تمكن من تحقيق تحول جوهري في الجهاز الحكومي بما رفع من تأهيله ولياقته ليمتلك المرونة للتعامل مع التحديات، وذلك من خلال تنفيذ مئات المبادرات الواقعة تحت مظلة البرنامج. وتبع البرنامج برامج أخرى ضمن منظومة تحقيق الرؤية، كان لها نسق متخصص في الإنجاز ضمن قطاعات أو مساقات محددة، فضلًا عن عدد كبير من الاستراتيجيات القطاعية التي تقوم على مبادرات تنفيذية، أي تحدث تغييرًا على الأرض.

ويستحق برنامج تحقيق التوازن المالي إشارة منفردة، فعلى الرغم من الشدة التي ولدها من حيث التكاليف للأفراد وللقطاع الخاص، إلا أنه أطلق صافرة إنذار مبكرة نسبيًا بأن لا بد من إصلاح هيكلية مصادر تمويل الخزانة العامة فهي غير مستدامة، كونها غير قادرة على تحمل الضغوط والصدمات. وقد ثبت ذلك عندما وضعت الموارد تحت “اختبار الضغط”.

وفي وقت أزمة كورونا، وهو وقت اختبار حقيقي للتغيير الذي أحدثته الرؤية على مدى خمس سنوات، وجدنا أن المملكة، لا أقول كانت جاهزة، لكن كانت تمتلك المرونة للتعامل مع جائحة عالمية تضرب مفاصل أنظمة الرعاية الصحية والدعائم الاقتصادية. وقد تجسدت تلك المرونة في جهد حكومي منسق ومتواصل على مدار الساعة، وضمن مسارات متوازية تتقاطع في المستويات العليا للتنسيق ومنع الازدواجية والتضارب. وقد صممت تلك المسارات -مسنودة بعشراتٍ من فرق العمل- سياساتٍ، ونفذت مبادراتٍ تواكب وتتصدى للتحديات المستجدة صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ووفقًا لتلك المنهجية فلم يغب اهتمامها لا بالإجماليات ولا بالتفاصيل.

ولم يرتكز الإنجاز على مجرد إطلاق مبادرات وليدة الظرف الطارئ للجائحة، إذ لم يكن لذلك أن يتحقق إن لم يكن مستندًا إلى استثمار في الإصلاحات المالية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، شملت تعديل مئات الأنظمة والتشريعات واللوائح، كما شملت توجهًا هائلًا نحو الرقمنة للأعمال الحكومية، ليس فقط من خلال التواجد على الإنترنت أو التواصل الاجتماعي، بل أعمق من ذلك بكثير بالاستثمار في البنية التحتية الرقمية، ومنح التحول الرقمي أولوية عالية، فكان لذلك أكبر مردود إبان الجائحة بأن مكنت الحكومة أن تستمر في ممارسة أعمالها وتقديم خدماتها، رغم أن شرائح واسعة من موظفيها يعملون عن بُعد، كما أنها وفرت البنية التحتية الضرورية لممارسة قطاعات أساسية أعمالَها عن بُعد، بما في ذلك قطاع التعليم والتجارة، على سبيل المثال لا الحصر.

الرؤية وزمن الاستثمار
واهتمامات المملكة، وعلى الرغم من تحديات الجائحة، لم تتزحزح عن الالتزام بتحقيق الرؤية، ومستهدفاتها الـ 96، في المستوى الثالث، المنبثقة عن 27 هدفًا من المستوى الثاني، والمستخلصة من 6 أهداف من المستوى الأول. بل زادت المملكة إصرارًا على الوصول للمستهدفات وفق خط النهاية المحدد وهو العام 2030. ويتضح ذلك أن العام 2020 شهد إطلاق استراتيجيات جوهرية وولادة أحد أهم برامج تنفيذ الرؤية، ومن تلك الاستراتيجيات استراتيجية سوق العمل، ومن البرامج برنامج تنمية القدرات البشرية.

وعلى الرغم من الأهمية الحرجة لسوق العمل، ولتطوير وتنمية رأس المال البشري، إلا أن التوجه انساق كذلك لتحرك يشمل الاقتصاد ككل بكافة مكونات وحدود الناتج المحلي الإجمالي، وبما يعزز نموه، فأطلق ولي العهد مبادرات متتابعة على صلة بالاستثمار، كان آخرها برنامج “شريك”، حيث حدد سموه في كلمته بمناسبة إطلاق البرنامج أن مكونات الضخ الاستثماري للمملكة حتى العام 2030 تناهز 27 ترليون ريال سعودي، موزعة كالتالي: 3 ترليون تنفيذًا لاستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة، 4 ترليون تنفيذًا للاستراتيجية الوطنية للاستثمار، 5 ترليون برنامج “شريك”، 10 تريليون الإنفاق الحكومي، 5 ترليون الاستهلاك الخاص.

ويتميز الاستثمار بمزايا متعدية؛ فالضخ الاستثماري يدفع الاقتصاد برمته من خلال زيادة الطلب على السلع والخدمات، بما في ذلك الطلب على اليد العاملة، وتؤدي الزيادة في الطلب لنمو الناتج المحلي الإجمالي. ولنتذكر أن الضخ الاستثماري المتنامي سيعني تحقيق جملة كبيرة من أهداف الرؤية، فهي تعتمد على تحفيز الطلب، وتوسيع سعة الاقتصاد المحلي، واستيعاب الموارد البشرية والطبيعية استيعابًا منتجًا، بما يرتقي بالبنية التحتية وبالآلة الإنتاجية، بما يؤدي لزيادة الطلب على المنتجات المحلية، ويعزز المحتوى المحلي، ويزيد رصيد صافي الصادرات لصالح الاقتصاد السعودي، بما يدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتعزيز ميزان المدفوعات هو المستفيد كذلك من توافد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقلص التحويلات الخارجية للعمالة عبر استيعابها محليًا من خلال تنويع خيارات الاستثمار للمواطنين والمقيمين.

وهكذا، فالحقبة القادمة هي زمن الاستثمار لتحول الاقتصاد السعودي لتحقق معدلات نمو أعلى تتجاوز معدل النمو المحتمل (Potential GDP Growth) لتحقق العشرات من مستهدفات الرؤية بالتوازي. ولن يحقق ذلك إلا ضخ استثماري هائل، فالاستثمار هو “وقود” النمو.

البيانات للشكل 2

المؤشر العام للأسعار
2019 يناير 97.66
2019 فبراير 97.49
2019 مارس 97.39
2019 ابريل 97.44
2019 مايو 97.47
2019 يونيو 97.69
2019 يوليو 97.96
2019 أغسطس 98.15
2019 سبتمبر 98.38
2019 أكتوبر 98.43
2019 نوفمبر 98.30
2019 ديسمبر 98.52
2020 يناير 98.37
2020 فبراير 98.69
2020 مارس 98.83
2020 ابريل 98.71
2020 مايو 98.50
2020 يونيو 98.20
2020 يوليو 103.96
2020 أغسطس 104.20
2020 سبتمبر 104.03
2020 أكتوبر 104.10
2020 نوفمبر 104.00
2020 ديسمبر 103.77
2021 يناير 104.00
2021 فبراير 103.87
المصدر: الهيئة العامة للإحصاء

 

 

 

ذات صلة

المزيد