تحولت المملكة من مراقب للتطورات التقنية إلى لاعب رئيسي في سباق الذكاء الاصطناعي خلال أقل من عقد، مدفوعة برؤية طموحة تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي متكامل يعزز من مكانة المملكة عالميا، ويحقق التنوع الاقتصادي بعيدا عن الاعتماد على النفط. وقد شكل إطلاق “رؤية المملكة 2030” نقطة البداية لهذا التحول، حيث وضع الذكاء الاصطناعي ضمن أولويات الأهداف الاستراتيجية باعتباره محركا رئيسيا للابتكار ورفع كفاءة الأداء في مختلف القطاعات الحيوية.
وفي عام 2019، تأسست الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، لتطلق في العام التالي الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي خلال القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي في الرياض، والتي تهدف إلى جعل المملكة من بين أكبر 15 دولة في هذا المجال بحلول عام 2030، مع استقطاب استثمارات في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي بنحو 75 مليار ريال، وتحفيز ريادة الأعمال والإسهام في خلق أكثر من 300 شركة ناشئة.
وعلى صعيد الشراكات، وقعت المملكة اتفاقيات مع كبرى شركات التقنية العالمية مثل IBM وHuawei، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم مع الاتحاد الدولي للاتصالات لوضع إطار عالمي يدعم التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي.
وبرزت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الوطني، لا سيما في قطاع الطاقة مثل أرامكو، وذلك لتحسين الكفاءة وخفض التكاليف، وفي الصحة من خلال تطوير حلول تشخيصية ذكية، وكذلك في قطاع التعليم عبر توظيف تقنيات حديثة لتعزيز أساليب التعلم.
وفي مجال المدن الذكية، تمثل نيوم نموذجا متقدما، إذ تبنى على أساس بنية تحتية رقمية متكاملة تتيح تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، وأبرمت شركة نيوم عدة شراكات استراتيجية لإنشاء مصنع متخصص في تقنيات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى إعلان صندوق نيوم الاستثماري خلال مايو الجاري، الاستثمار في شركة MemryX الأمريكية لتطوير حلول أشباه الموصلات للذكاء الاصطناعي الطرفي.
وفي مايو 2025، مثّل إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، عن إطلاق شركة “هيوماين” HUMAIN -المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة- نقطة تحول مفصلية في رحلة المملكة، بهدف تطوير وإدارة حلول وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والاستثمار في منظومة القطاع.
وستعمل الشركة على تقديم أحدث نماذج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ومن ذلك تطوير أحد أفضل النماذج اللغوية الكبيرة (LLM) باللغة العربية، إلى جانب الجيل الجديد من مراكز البيانات، والبنية التحتية للحوسبة السحابية، وذلك لترسيخ موقع المملكة كمركز عالمي لتمكين أفضل تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي، وجذب الفرص الاستثمارية وأفضل الكفاءات في القطاع من المملكة والعالم.
وخلال منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي في الرياض، أعلنت “هيوماين” عن شراكات استراتيجية مع عمالقة التقنية الأمريكيين، شملت: صفقة ضخمة مع “إنفيديا” لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في المملكة، عبر توريد مئات آلاف الرقائق المتقدمة، إلى جانب شراكة مع AMD لتحالف استثماري بقيمة 10 مليارات دولار لإنشاء مراكز بيانات AI بقدرة 500 ميجاواط في السعودية وأمريكا.
إضافة إلى الشراكة الاستراتيجية مع: AWS (أمازون ويب سيرفيسز): وخطط استثمار بنحو 5 مليارات دولار، لإنشاء أول “منطقة ذكاء اصطناعي” في المملكة، توفر بنية تحتية سحابية متقدمة وخدمات مثل Bedrock و SageMaker، وشراكة مع Cisco: لبناء شبكة ذكاء اصطناعي مرنة وآمنة، مع إطلاق معهد “سيسكو” للذكاء الاصطناعي في كاوست، وتدريب نصف مليون سعودي، و”كوالكوم”: لتطوير بنية هجينة بين الحوسبة السحابية والطرفية، وتأسيس مركز تصميم أشباه موصلات محلي، و Global AI: لمنح “هيوماين” إمكانية الوصول إلى مراكز بيانات أمريكية متقدمة، مع التخطيط لبناء منشآت مماثلة في المملكة.
عكست هذه الشراكات الضخمة لـ “هيوماين” توجها سعوديا واضحا نحو السيادة التقنية، وتوطين البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، بما يؤكد التحول من استهلاك التقنية، إلى إنتاجها وتصديرها، لتكون المملكة من الدول القليلة التي تمتلك منظومة ذكاء اصطناعي متكاملة تشمل البنية التحتية، المواهب، والمعايير الأخلاقية، مع التطلع إلى خلق منظومة اقتصادية جديدة قوامها البيانات والخوارزميات، قادرة على المنافسة عالميا، في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية حول التحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية السحابية.