لا يمر اليوم دون الحاجة لاستخدام الهاتف المحمول، إما لأجل التواصل مع الناس أو للاستمتاع في تصفح تطبيقات الجوال الذكية. خلف هذه الخدمة هناك اتصال لاسلكي يتم عبر شبكات الجوال الخلوية يقوم بربط أجهزتنا المحمولة بأجهزة أخرى في الشبكة أو بعالم الانترنت. هذا الاتصال يمر من خلال مكون رئيسي يعرف بشبكة الوصول اللاسلكي، Random Access Network (RAN)، ووظيفته هو معالجة الإشارة المستقبلة من الجوال ثم نقلها لمركز البيانات. كما يظهر هذا المكون غالباً في صورة برج جوال وبجانبه غرفة معدات مزودة بأنظمة معالجة عالية السرعة. وللعلم بأن جميع أجزاء هذا المكون ينحصر تصنيعها عالمياً بواسطة مورد واحد، في حين أن هناك القليل من الشركات حول العالم التي تملك سر هذه الصناعة! من هنا انطلقت مؤخراً الكثير من الدعوات نحو تبنى تقنية الران المفتوح (Open Ran)، حيث تهدف هذه التقنية نحو تحفيز الأسواق للانفتاح وكسر الاحتكار، بحيث يتم استبدال الران التقليدي المحتكر بواسطة مورد واحد بنظام مفتوح يتم التشارك في توريد أجزائه عدة موردين.
لماذا الآن؟
قد يتساءل البعض عن سبب حراك متخذي القرار نحو مفهوم الانفتاح رغم أن تقنية الران التقليدي عالية الكفاءة وسوقها ممتد منذ عشرات السنين؟! نعزو هذا السبب إلى أن تقنيات الران كانت إلى وقت قريب تعتبر من الأجزاء الأقل أهمية لدى الغرب في سلسلة القيمة المضافة لشبكة الجوال، إلا أن تقديرات الأهمية تغيرت مع مستجدات التقنية، ومنها على سبيل المثال:
(1) الهيمنة الصينية –بقيادة شركة هواوي- على ثلث حصة السوق العالمي، حيث تتميز معداتها بالكفاءة والسعر التنافسي مقارنة بمنافستيها إريكسون الفنلندية ونوكيا السويدية.
(2) ازدياد الحاجة إلى بناء العديد من أبراج الجوال بسبب اعتماد تقنيات الجيل الخامس وما بعده على النطاقات عالية التردد، وطبيعة هذه الترددات عدم قدرة إشارة الجوال على الانتقال لمسافات بعيدة، وبالتالي حاجة المشغل لبناء عدد أكثر من أبراج الجوال للتغطية.
(3) دخول عدد من التقنيات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليل التكلفة التشغيلية للران، مما يعني جدوى اقتصادية أعلى، خصوصاً إذا علمنا أن 70% من مصاريف تشغيل الشبكة يتم إنفاقها على RAN. هذه المعطيات أدت إلى تصعيد أهمية RAN عالمياً، وبالتالي تحرك لأصحاب المصلحة نحو إعادة ترتيب الأوليات والدخول للمنافسة في هذا السوق.
هل تقنية الران المفتوح ناضجة؟
تقود الشركات الأمريكية موجة التغيير نحو الران المفتوح، حيث تم التسويق لشركة Dish، كمشغل مرخص لشبكات الجوال المعتمدة على الران المفتوح. وعلى الرغم من بعض نجاحات التشغيل حول العالم، إلا أن هناك الكثير من التحديات حتى الوصول لمرحلة النضج التقني، ومنها على سبيل المثال: (1) تحدي الوصول لمؤشرات أداء مقاربة للران التقليدي، (2) وتكامل شبكة مشغل الران المفتوح مع الشبكات التقليدية، (3) والتوافق الذي يواجه المشغل عند تجميع أجزاء الران المختلفة من عدة موردين.
هذه التحديات تعطينا تفسيراً واضحاً لعزوف بعض مشغلي الشبكات من خوض غمار تجربة الران المفتوح على حساب التضحية في تجربة عملائهم. وعلى كل حال، تعتبر التحديات وليدة التغيير والدخول إلى عالم أي تقنية ناشئة، والسؤال هنا عن الموقف الواجب حيال هذا الزخم؟ هل ينبغي التريث حتى نضج هذه التقنيات؟ أو اتباع سياسة الدخول ثم التعلم من الأخطاء؟! نعتقد هنا أن التحول إلى تقنيات الران المفتوح هي مسألة وقت، واقعة على المدى المتوسط، ويدعم هذه الفرضية هو زخم التطوير الناشئ بقيادة الشركات الأمريكية وحلفائها، وكذلك المحاولات الحثيثة لجعل هذه التقنيات معتمدة على البرمجيات، وهذا المجال هو سر الصنعة الأمريكية!
جدوى الانفتاح
أما من ناحية جدوى تبني تقنيات Open RAN في الوقت الحالي، فأعتقد هنا عدم مناسبة التوسع الكبير تجارياً في بناء الشبكات المعتمدة على هذه التقنيات، وذلك لحين الوصول إلى نضج واضح في الأسواق، وهذا الرأي لا يقلل من أهمية الاستثمار الأمثل في الشركات الناشئة والمراكز البحثية ورأس المال البشري لدعم البحث والابتكار في هذه التقنية، مع إشراك القطاع الخاص لتقييم الأجزاء المهمة في سلسلة الإمدادات، ومن ثم تركيز جهود التطوير نحو المكونات ذات الأثر الاقتصادي. كما أن هناك دوراً حيوياً يستطيع القيام به مراكز الأبحاث ومشغلو الشبكات، وهو تعزيز ثقافة الانفتاح نحو تقنيات Open RAN، وذلك عن طريق بناء الخبرات في آلية تكامل أجزاء النظام، وأيضاً عمل اختبارات التوافق بشكل دوري لأحدث منتجات الموردين في السوق. هذه الاستراتيجيات بدورها ستأخذ الأسواق المحلية لوضعية الاستعداد عند الوصول إلى مرحلة النضج الكامل لتقنية الران المفتوح، وبالتالي ضمان الدخول في هذه الصناعة كمطورين في تقنيات شبكات الجوال.