الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل أن تتحدث الخارجية أو البنتاغون، وقبل أن تُنشر أي بيانات رسمية، كانت زوايا واشنطن الخلفية تهمس بشيء قادم. في تفاصيل صغيرة لا تُقال في المؤتمرات: ازدحام غير معتاد في مطاعم البيتزا قرب وزارة الدفاع، في ما يعرف بين مراقبي العاصمة بـ”مؤشر البيتزا“، حيث يُقاس به حجم العمل المتأخر ومؤشرات التوترات الأمنية، سيارات متوقفة بمحاذاة السفارات، ومؤشرات بحث مرتفعة على تطبيقات الخرائط في مناطق قريبة من مراكز القرار الأميركي. هناك ما يُعد في الخفاء، والأسواق التقطت الإشارة قبل أن تُعلنها الأخبار.
حين بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن إخلاء جزئي لبعض البعثات الأميركية في الشرق الأوسط، لم يكن الأمر مفاجئًا. من العراق إلى البحرين، ومن الكويت إلى السفارات القريبة من مسرح التوتر الإيراني، بدأت التعليمات بالوصول: “الإخلاء احترازي”. لكن الأسواق لم تقرأه كذلك. ارتفعت أسعار الذهب، وقفزت أسعار النفط، وارتجفت عقود التأمين البحري. فالاحتراز لا يُبنى إلا على معلومة دقيقة، والخطر بات أقرب من أن يُترك للتكهنات.
التقارير الواردة من طهران تُظهر تقدمًا ملحوظًا في البرنامج النووي. نسبة التخصيب تجاوزت 60%. المفاوضات في عُمان باتت على وشك الانهيار. والجولة السادسة بين ويتكوف وعراقجي معلّقة على خيط من دخان. إسرائيل تُلوّح، وربما تتهيأ لضربة استباقية. في المقابل، إيران تراكم أوراق الرد. وبينهما، واشنطن تتصرف كما لو أنها لا تريد الحرب، ولكنها في الوقت ذاته لا تستطيع منعها.
الخيارات تضيق، ولم تعد هناك مساحة واسعة للمناورة. إسرائيل تخشى فقدان اللحظة الأخيرة، وإيران تملك نفوذًا قادرًا على إشعال أكثر من جبهة، بينما فقدت الولايات المتحدة عنصر الردع، أو على الأقل لم تُفعّله. وفي ظل غياب قيادة موحدة للموقف الإقليمي والدولي، تتراجع القدرة على احتواء التصعيد، وتصبح الأسواق الضحية الأولى لهذا الغموض المتراكم.
كالعادة، الذهب كان أول من استجاب. لم ينتظر بيانات رسمية ولا تحليلات وافية. ارتفع فجأة، لأنه ببساطة لا يثق بالمسارات السياسية. حين يهتز اليقين، يتجه الناس نحو الأصول الآمنة. الذهب لا يشتري الأمل، بل يُسعّر الخوف. وعندما تعجز القوى الكبرى عن نزع فتيل أزمة بهذا الحجم، يُصبح المعدن الأصفر هو صوت الحذر الصامت. وقد ارتفعت أسعاره بأكثر من 1%، وقفز الذهب الفوري إلى حوالي 3,428 دولارًا للأونصة، بينما لامست العقود الآجلة 3,450 دولارًا، مسجّلة مكاسب أسبوعية تجاوزت 3.5%، بحسب تداولات منتصف يونيو 2025.
ولم يكن النفط بعيدًا عن هذا المشهد. لكنه لا يستجيب فقط للغموض السياسي، بل يتأثر أيضًا بخطر ملموس على سلاسل الإمداد. عقب الضربة الإسرائيلية لإيران، قفز سعر خام برنت إلى 75.2 دولارًا للبرميل، وتجاوز خام غرب تكساس 74 دولارًا، محققين مكاسب يومية تجاوزت 8.5%، وفقًا لبيانات السوق الفورية في نهاية الأسبوع الثاني من يونيو 2025. هذا الارتفاع لا يعكس نقصًا في الإنتاج، بل تسعيرًا لمخاوف السوق من سيناريوهات مثل إغلاق مضيق هرمز أو تصاعد كلفة التأمين البحري.
تزامنًا، تحوّل المسار الجوي إلى ساحة توتر إضافية. أُغلقت الأجواء فوق إسرائيل وإيران والعراق والأردن، ما أحدث اضطرابًا واسعًا في حركة الطيران. ومع تحول شركات الطيران العالمية نحو الأجواء السعودية كمسار بديل وآمن بين آسيا وأوروبا، وجدت المملكة نفسها في موقع لوجستي محوري. ازدادت حركة الطيران فوقها بشكل غير مسبوق، ما عزز موقعها كمركز إقليمي للاستقرار التشغيلي، وأبرز ضرورة الاستثمار في مراقبة الملاحة الجوية، وتعزيز بنية المطارات لتثبيت هذا الدور.
في ظل هذا المشهد، لا تقتصر المخاوف على الطاقة والأمن، بل تشمل خطرًا صامتًا: الأمن المائي. فالتلوث الإشعاعي في مياه الخليج – سواء بفعل ضربة مباشرة أو تسرب عرضي – قد يؤدي إلى كارثة إنسانية في دول تعتمد على تحلية مياه البحر، مثل قطر والإمارات والكويت. وقد حذرت تقارير فنية من أن “لو تلوثت مياه الخليج العربي إشعاعيًا، ستنفد المياه من ثلاث دول في غضون ثلاثة أيام فقط.” هذا السيناريو لم يعد نظرية، بل خطر حقيقي يُهدد الشلل الكامل للبنية التحتية والخدمات الحيوية.
وفي خلفية كل هذا، تقف المملكة العربية السعودية في موقع حساس. ليست طرفًا في النزاع، لكنها الأكثر تأثرًا بنتائجه. ليست فقط منتجًا رئيسيًا للطاقة، بل محور توازن إقليمي يُعيد تشكيل موازين الشرق الأوسط. لا تنتظر الأحداث، بل تتحرك لحماية الاستقرار الاستراتيجي قبل أن تتساقط الأزمات على الجميع. في لحظة تتزاحم فيها المصالح، تتحرك الرياض بعقلانية الدولة، لا بانفعالات اللحظة.
من هنا، يُفهم الموقف السعودي الحاسم: رفض المغامرة، حماية التوازن، والدعوة للتهدئة. وفي ظل سيل التقارير الأميركية حول هجوم إسرائيلي وشيك، ظهرت ثلاث فرضيات رئيسية: الأولى، أن هذه التسريبات تُستخدم كأداة ضغط على طهران لإجبارها على التفاوض من موقع أضعف. الثانية، أنها تهدف لإحباط الهجوم الإسرائيلي نفسه عبر نسف عنصر المفاجأة. الثالثة، أن الضربة حقيقية بالكامل، والقرار أصبح مسألة توقيت فقط.
وقد تحقق السيناريو الثالث. الضربة الإسرائيلية نُفذت، وردّت إيران، وأعلنت انسحابها رسميًا من المفاوضات النووية المقررة الأحد المقبل، لتُغلق بذلك آخر نوافذ الدبلوماسية، وتدخل المنطقة مرحلة ما بعد السياسة. لا وساطة، لا رسائل خلفية، بل لحظة حاسمة تُدار فيها المعادلات بالقوة.
في هذا السياق، يُطرح السؤال الحاسم: “ماذا بعد؟” هل نشهد مواجهة شاملة؟ هل تتوقف خطوط الإمداد؟ الأسواق لا تنتظر الإجابات، بل تتحرك على أساس أسوأ سيناريو. وحدها المملكة تبدو حتى اللحظة الطرف الوحيد الذي يُدير الأزمة برؤية لا برد فعل. وفي زمن تُسعّر فيه القذائف قبل أن تُطلق، وتتحرك البورصات قبل أن تنعقد القمم، تُصبح القراءة الاقتصادية أدق من تقارير الاستخبارات. وحين يقف الذهب عند أعلى نقطة، والنفط عند حافة الانفجار، ندرك أن القادم ليس مجرد اضطراب… بل إعادة رسم لموازين العالم. ومن يقرأ المؤشرات قبل العناوين… ينجو.
وفي هذا السياق المتقلب، تتولد فرص استثمارية لا تقل أهمية عن التحديات. فحين يُعاد رسم الممرات الجوية وتُغلق المنافذ التقليدية، تُولد الحاجة إلى بنية تحتية أكثر ذكاء وقدرة، ما يجعل الاستثمار في تطوير أنظمة الملاحة الجوية السعودية والمطارات الرقمية مشروعًا استراتيجيًا ذا جدوى مضاعفة. كذلك، فإن المخاطر على أمن المياه تدفع نحو تعزيز الاستثمارات في تقنيات تحلية المياه والزراعة الذكية، باعتبارها من مقومات السيادة الجديدة في عصر الجغرافيا المتغيرة.
وبينما يعود الذهب إلى الواجهة، تبرز أهمية إنشاء صناديق استثمارية وطنية مدعومة بالمعدن الأصفر، وحتى إطلاق عملات رقمية مستقرة مرتبطة به، تعيد تعريف الثقة في العملات والسيولة الإقليمية. كما تفتح اضطرابات التأمين البحري والجوي المجال أمام تأسيس شركات تأمين سيادية مختصة بالمخاطر الإقليمية، وهو قطاع جديد يحمل فرصًا مالية وتنموية عالية القيمة.
من جهة أخرى، يتسع المجال للاستثمار في تقنيات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي الدفاعي، حيث تسبق الحرب الحقيقية حرب البيانات، وتُدار الاستباقية عبر الخوارزميات. وفي ظل التحولات المتسارعة في أسواق الطاقة، فإن التوسع في مشاريع الهيدروجين الأخضر وتكنولوجيا البطاريات لا يعكس فقط رؤية بيئية، بل يعزز مكانة المملكة كمركز استقرار للطاقة البديلة في عالم يخطو نحو ما بعد النفط. كل هذه المسارات، وإن بدت في ظاهرها استجابات لأزمة، فإنها في عمقها فرص لبناء نموذج اقتصادي سيادي، يُعيد صياغة مفهوم الأمن، ويحوّل الأزمات إلى نقاط انطلاق نحو مستقبل أكثر مرونة وشمولية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال